6 دقائق للقراءة
من بين أمم العالم، فإن العقل العربي يمتاز بهشاشة لا تضاهى، وبنية أحفورية معقدة يصعب حلها.
وهذا ليس هضما لحقوق المفكرين والمبدعين الحقيقيين في هذه الأمة، لكنه حكم عام يجعل من تلك التجارب على عظمتها وعمقها تجارب “فاشلة” بالمحصّلة، إذ أن العقل العربي العام والسياسي خاصة برع في إحباط كل مشروع تنويري، أو تسميمه وتعكير صفوه: أليس تاريخ العرب مع الاسلام خير شاهد؟
ألم يتم التلاعب بأوراق كثيرة منذ البدايات أدت إلى قتل أقرب الناس إلى النبي، إلى مجازر بحق ذويه، إلى ملك عضود وتعاقب المآسي والمجازر والحقب المظلمة حتى لو كان فيها ما فيها من إشعاع حضاري ساهم فيه المسلمون (علماء وأهل فكر وفسلفة وعلم وعرفان) سواء كانوا عربا أو من أمم أخرى خاصة فارس وما جاورها إلى أعماق قريبة من القوقاز وإلى الهند والسند وبلاد الملايو. وكذلك أهل المغرب (عربا وأمازيغ) وأهل الأندلس وأثرهم على النهضة الفكرية والعلمية في اوروبا بعد عصور الظلام والانحطاط.
العقل الأوروبي تخلص من عقدة “الكنيسة” التي كانت تعدم العلماء والفلاسفة بحجة أنهم يمارسون السحر والهرطقة، فقط لأنهم شككوا في كلام موضوع منسوب كذبا إلى السيد المسيح: مثلا حول بنية الكون وأن الأرض مركزه وهي مسطحة ثابتة تدور حولها الشمس، وأن النجوم معلقة بالسلاسل وأن مجرة درب التبانة ليست أكثر من نقاط من الضوء وهو ما قام كوبرنيكوس متأثرا باكتشافات علماء مسلمين ونظرياتهم بتحطيمه ثم أكمل المهمة غاليليو وكان اختراع المرقب ثم المرصد مدمرا بحيث قضى على ترهات الكنيسة التي اعتذرت من غاليليو بعد 600 عام من قتله وثبت فعلا أن الأرض تدور.
لكنك إن قرأت كتب السنة ستجد أحاديث فيها كبير شبه بما كانت تروج له الكنيسة: مثل ان الشمس حين تغرب تسجد تحت العرش ثم تستأذن لتشرق ويوما ما تطلب الإذن فلا يؤذن لها فتخرج من المغرب.
ومهما حاول علماء الحديث ترقيع هذا وتأويله فإنه يتعارض مع العلم الحديث وحتى مع القرآن الذي بين أن الشمس تجري لمستقر لها مع تفاصيل كونية دقيقة مذهلة تثبت أنه من عند الله، وتجد أحاديث تتصل بالقرآن العظيم وتبين أن قائلها هو النبي الكريم كقوله أنه عندما صعد إلى السماء رأى الأرض كحلقة في صحراء وهي تعبير عن رحابة الكون واتساعه وأن الأرض ليست مركز الكون بل حلقة فيه، ولكن بالمقابل تجد أطنان من الأحاديث الشبيهة بما وضعه بنو إسرائيل ونسبوه إلى الأنبياء خاصة موسى والمسيح ثم تبنت الكنيسة ذلك وثبت أنه باطل.
إن “الكنيسة الأثرية” التي تتشبث بكل حديث ولو ظهر بألف ألف برهان أنه باطل حفاظا على “ماء الوجه” أو عنادا هي معين التخلف والإلحاد ومنبع الارهاب التكفيري السلفي الوهابي التيمي الخارجي الداعشي.
فأنت تجد أحاديث فيها قتل وترويع وتشريد وإباحة لدماء الناس بغير حق وتخلف يدحضه العلم واسرائيليات جلية ظاهرة الله منها براء ونبيه منها براء والاسلام منها براء لكن تم الاعتماد عليها بل وبناء أحكام فقهية على أمور مدسوسة وملفقة ومزروة، ولعل القارئ يعتقد أني اخوض هنا فيما خاض فيه كثير غيري ضمن “مناكفة مذهبية”: بل الحق أني أقول أن هذا وباء عام في أمة الاسلام على اختلاف مذاهبها، وإن اختلفت النسبة والحدة والنوع والدرجة، وأني أقول ما أقول بعد بحث معمق دقيق استغرق أكثر من خمسة عشر عاما، وحوارات مع كثير من أهل العلم والنقد وأصحاب الرؤى وحتى مع المنغلقين الرافضين لأي نقد لأنهم يربطون السير التاريخية والروايات وأقوال الفقهاء وما نسبه المحدثون للنبي بالنبي والقرآن والله، وهذا جوهر الخطأ، إن لم يكن جوهر الجريمة في حق الأمة والتي جرت عليها الويلات إلى اليوم بشكل متفاقم كل مرة أكثر، لوعي العدو الدقيق جدا بذلك.
داعش قتلت بناء على روايات منسوبة للنبي تظهره قاتلا بلا رحمة، وقسمت غنائمها من المال والنساء بناء على ما وضع الفقهاء.
وكنيسة الفقهاء المنغلقين حصرت العقل الحر وحاصرته بناء على أحاديث مكذوبة وإسرائيليات ظاهرة، وقامت بتحريم التطور وقتل روح العلم وفق أحاديث ورايات وتلفيقات كما فعل ابن تيمية من قبل اعتمادا على مدرسة القراء اليهودية التي نهل منها وكانوا جيرانه في السكن، وبنوا إسرائيل اخترقوا الامة مرارا وعبثوا بها وليس ابن الراوندي الأول والأخير، فارجع إلى سيرته.
لقد كذب من الفقهاء الذين قالوا أن آراءهم هي الإسلام وجوهره، وصدق منهم من رد الأمر إلى صاحبه صلى الله عليه وعلى آله وقال أن الباقي رأي وكلام رجال يعارضه رأي وكلام رجال، وما كان مالك ولا أبو حنيفة ولا الشافعي ولا الاوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد إلا من هذه الطائفة، ولعبت السياسة دورها في مكانة ابن حنبل (لعبها المتوكل العباسي بالأساس) التي نفخ فيها أتباعه لاحقا. ورغم ما للرجل وما عليه فإن فتنة الحنابلة في القرن الرابع ثم القرون التي تليه حتى كان منهم ابن تيمية الحراني (661 هـ – 728هـ/1263م – 1328م) وما كان من أثر فكره في تكفير كل علماء الأمة وعمالقة فكرها قبله (الرازي والفارابي وابن الهيثم وابن سينا….) وفي التكفير الدموي (حادثة ماردين) وغيره ذلك كثير. ثم في فتنة النجدي واتباع ابن عبد الوهاب وما فعله وفعلوه إلى اليوم حيث يمثلون منبع ومصدر القاعدة وداعش وأخواتها ومظهرا جليا للكنيسة المبنية على الوضع والدس والدجل السياسي الجاثمة على صدر الأمة منذ معاوية وحتى هذه الساعة بقوة المال والسلاح والتواطؤ مع أعداء الأمة، مع أنها تشكلت زمن النبي في عمل مواز لعمله محاصر له ثم كان لها أثرها في الفتنة من السقيفة إلى الجمل وصفين وكربلاء والحرة وفخ مرورا بحروب الردة وحادثة مالك بن نويرة وغيرها، وهي أمور تحتاج لمراجعة جريئة شجاعة تميل مع الحق لا مع غيره بعيدا عن كل مناكفة مذهبية أو أغراض تحيد عن الحق في لبه.
إن كتبا كثيرة كتبت في نقد العقل العربي، ونقد الموروث العربي الاسلامي، وهنالك معارك عديدة بين الذين يرون الالتزام فقط بالقرآن وترك السنة جملة وتفصيلا، فسموهم “القرآنيين”.
وبين الذين يرون أن كل السنة محرفة ومتخلفة وسبب للتخلف، بل امتد بهم الأمر اعتمادا على الموضوع من الاحاديث إلى القرآن فأنكروه والاسلام فأبطلوه وقالوا دين دموي لا يصلح للحياة وهؤلاء يدعم قولهم تاريخ الأمة الدموي فعلا، ومظاهر الدعوشة والارهاب، والتخلف في الخطاب السلفي خاصة والمناقض للعلم صراحة كأن يخرج متفيقه وهابي يقول لو أن الأرض تدور كانت وصلت الطائرة إلى الصين وهي في مكانها إن أقلعت من دبي، وهؤلاء نسخ أكثر سفالة مما كان في الكنيسة المسيحية زمن غاليلو. وهؤلاء خرج منهم الملاحدة بل استخدم دعاة الالحاد تلك الحجج للدفع بآلاف من الشباب المسلم إلى الإلحاد.
وهنالك من علماء الشيعة من ينقد الوضع في كتب السنة بناء على مسار كامل من غدير خم ثم “رزية الخميس” إلى الآن، وينقدون كتب الصحاح في الكثير من الأمور وينقدون عددا من رواة الحديث وخاصة أبا هريرة مثل كتاب لعبد الحسين شرف الدين.
بل خرج من علماء الشيعة من نقد الكثير مما تعج به الكتب وفيه ظلم للدين وللأئمة ودعا للمراجعة والفهم مثل العلامة الوائلي رحمه الله.
وهنالك علماء سنة كتبوا في نقد الكثير من معتقدات ومرويات الشيعة، وقد أصاب بعضهم لأنه رام الحق، وأجحف الكثير منهم لأن الدافع كان الحقد المذهبي كما يفعل الكثير من الوهابيين والنواصب على تاريخهم.
وهنالك من علماء الأمة والسنة خاصة القدامى والمعاصرين من ينقد العقل الجمعي ومن ينقد الموروث بعيدا عن الجانب المذهبي، وأعتقد أن أكثرهم تمكنا في عصرنا وفق معرفة مباشرة بالرجل وحوارات طويلة معه هو حسن فرحان المالكي الذي محص ودقق التاريخ من القرن الاول إلى القرن الثالث وإن اختلفت معه في أمور واتفقت في أخرى وتلك طبيعة الفكر.
وهنالك فلاسفة مصلحون، ومفكرون رائعون، لكن تأثر بعضهم بالمستشرقين فأغرق في النقد، ومس بعضهم الواقع فيئس من الإصلاح، وحاول بعضهم الآخر كما فعل علي شريعتي ومالك بن نبي ومحمد الغزالي.
وأنا أعتقد أن أزمة العقل العربي رهينة الماضي أساسا، متجذرة في أركيولوجيا البنية العميقة، وفي جيولوجيا الوعي وطبقاته الأعمق، وفي تكوين النفسية وفي أثر الكتب القديمة التي حاصرت القرآن واختطفت النبي وساهمت مباشرة في تغييب الكثير من الحقائق وتشوييهها وفعلت كما فعلت الكنيسة زمن الانحطاط الاوروبي.
وأرى الأقوم والأصوب في فهم أن في السنة أحاديث صحيحة وأخرى موضوعة وأن الواجب تنقيتها.
وأن في التاريخ حقائق وأباطيل وفي فهم القرآن فهم صحيح وأفهام سقيمة عقيمة، والواجب التمييز وإعادة القراءة والكتابة.
وأن في الفقه ما فيه من تفصيل للدين وهدي للناس، وفيه أيضا دجاجلة وقتلة وكتب تقطر وحلا ودما.
ويجب اليوم قبل الغد أن نوقف النزيف قبل أن يتجدد بما هو أشد بشاعة وإيلاما وضررا، وأن نمنع ابن تيمية وابن عبد الوهاب ويزيد قبلهما ومن شاكله من قتل الأبرياء اسم الله ورسوله وباسم الدفاع عن الدين أو تطبيق كلمة الله وتحقيق وعده: أليست داعش مظهرا صادما موجعا لذلك؟
ألم تعتمد على الفقه الدموي والاحاديث والروايات المكذوبة في قتل ونسف ونحر وسحل وتدمير وتفجير الصوفية والمسلمين من سواهم من أهل المذاهب وفي ما صنعوه بالازيديين وسبي نسائهم وبيعهن بيع الأنعام.
ألا تجد في كتاب المجد في تاريخ نجد لابن بشر وكتاب تاريخ نجد لابن غنام مؤرخا الحركة الوهابية في نشاطها الاول أمثلة من ذلك مليئة بأبشع المشاهد. ثم ما فعله ابن تيمية في جبل عامل وفي ماردين وسواها. وما تم اقترافه في الحرة مما يشيب له الولدان، وفي فخ بحق النفس الزكية وآل الحسن، وفي غيرها من مشاهد رهيبة حتى تم وضع أحاديث تبيح قتل ابن بنت رسول الله ويقول النواصب إلى اليوم: الحسين قُتل بسيف جده !!!
وأن القداسة التي منحها الله لرسوله غير القداسة التي ترسمها الكتب القديمة له، فكلام النبي الحق مقدس لا شك وهو وحي يوحى، وفي كتب الحديث نصيب كبير منها، وفي السيرة الكثير من أخباره الصحيحة الجلية، لكن كلام الوضاع وكلام الاسرائيليات وكلام المتعصبين والخونة له ولدينه وكلام المبغضين له والجهلة والأدعياء وأصحاب المصالح والسياسة والتلاعب وتأويلاتهم كلها مدنسة تسيء إليه وتسيئ إلى دينه.
لكن هل يمكننا فعلا أن نقوم بذلك ولو على حساب المذهب والعصبية وما يُظن أنه ركيزة مع الله والرسول والقرآن في الدين؟
هنا تكمن المعضلة.
سوسة 31/07/2018 12:33