4 دقائق للقراءة
الفن روح ووجدان وذاكرة…. روح شفيف يسمو بالنفس ويهذب الخلُق ويؤنسن العالم…وجدان مرهف يستشعر الذات والآخر ويلامس الكون بمحبة…وذاكرة ممتدة للجنة وماضي كل روح …وإلى جد البشر وذكريات وجدان أول إنسان…والفن أنس بالخلق وظل لأنوار الخالق….
الفن روعة اللوعة…ولوعة الروعة..ألم وأمل…ومواويل وتر الروح على أهداب الكون المبهج البهيج…
الفن رقص الطبع والطبيعة على أنغام صنعتها أيدي الجلال والجمال والكمال…. تمظهر لخالق بديع وضع نظمه في قطرة ندى على خد زهرة وفي زقزقة عصفور وهدير عاصفة وهديل حمامة…والفن ترياقي..ولازلت أحتفظ بإيماني وسأظل بأن الفن ترياق النفس البشرية….
الفن وأمتِّنا..أو أمَّتُنا والفن….
هل لي أن أتصور أننا حين قرأنا هذه الكلمات وقرأها زماننا نطقها ونطقناها وطبّق وطّبقناها على نحو مغاير….
فبدل أُمّتُنَا والفن… صار: أَمِتْنا والفن…فعل أمر لاستحضار الموت… أمِتْنَا وأمت الفن….
تأمل معي…أمة أهدت للعالم زرياب والموصلي…والمتنبي والبحتري..لا ترهقني بالرجوع إلى زاقورات بابل ولا تجبرني على سرد تاريخ طويل جميل ممتع رغم كل أوجاعه وأكاذيب الوضاعين فيه…ولكني سأنظر إلى الفارابي يعزف موسيقاه الساحرة في حلب وأمضي خلف القدود الحلبية لأجدني أستمع لصوت وديع الصافي ومواويل صباح فخري…أو أمشي إلى الأندلس لأجالس ولادة روحا خفية لا تراها العين وأنظر للرياض … ومرأى الأرض إذ راق …وحمامة بيضاء تحط قريبا حاملة عبق الحنين ويد من ضوء تداعب زهرة ندية على خرير ماء ينساب في رياض تعبق بالسحر والفن والجمال …وابن زيدون يسترق النظر مثلي جسدا كما كان وروحا كما هو الآن وكما أنا حينها قبل تجسدي وأنا أخط هذه الأسطر….هذا أيضا فن في التخلل والتسلل بين الأزمنة والأمكنة والخواطر والامنيات….
إذا أنت مقتنع معي أن أمتنا أمة فن…وأحترمك إن قلت لي بعزم: أمتنا أمة شرع ودين..أجل هي كذلك وأكثر…….وستجد خلفك من يكفرني لأني أتكلم عن الفن …حسنا…ألم يقل كعب بن زهير الشعر بين يدي النبي…كان يمدحه..هنا سينجو الشاعر من سوط الجحيم وصوت الرعب…أبتسم…لقد قال عن سعاد:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ..لا يشتكي قصر منها ولا طول
أليس هذا فنا ذوقيا رفيعا في الغزل الحسي الراقي..في حضرة نبي وفي بردة!! أجل..
إذا ما المشكلة..وكيف مات الفن في أمتنا وماتت أمتنا مع الفن وبه وفيه…
بين ضفتين أيتها العين ..تأملي وانظري وتعلمي وافهمي…
هنا ضفة الجراد الأعمى والضفادع المستلقية على وحل الأوهام المريضة تتعرى وتغري بعض الصدف الفارغ..وتغرينا أيضا..حين تتشكل في أجساد فاتنات يتمايلن ويتغنين عهرا وعفنا وموتا وكفنا..جميل أن يعتبر الكفن..كـــ….فن…
فن التكفين…إنه فن عصري مبهج..أن يلفك كفن من الرغوة…والرغبة…والهيجان الثوري الممتع…والثوري هنا نسبة للثور لا للثورة..فيكون الثوري في عين الرصاصة والحجارة والجرح والأرض…مجرد مصاب بالتصلب فاقدا لكل ذائقة وفن…ولا حق له في الاقتراب من الحرف واللحن والصورة…أما” الثوري”…فهو الأصل والفصل…ذلك الذي ينطح كل ما حوله بقرنين من حنق وحمق…لاهثا خلف كل أحمر..في الفساتين وأحمر الشفاه والكؤوس المليئة بالشراب الدموي والليالي الحمراء التي تنظر إلى كلمة “حمراء” بتشف صهيوني وهي تشير إلى الأندلس وقصور بني الأحمر وقصبة الحمراء ثم تشير إلى بغداد وبيت المقدس وتغمز قزما أعور يقبع في أسفل اللون الأحمر ماسحا عن المرايا صور الدم الأحمر المتفجر من الجراح وشفاه المبتهلين….
هذه ضفة…إنه التكفين…الأبيض البريء حين يتحول إلى كفن..والأحمر الجريء حين يتحول إلى عفن….والموت المتسلل إلى القلوب والأرواح..كـــ….فن .
على الضفة الثانية أعين تنظر بحقد وتكره كل العالم…تكفّر كل شيء… حتى أنثى البلبل لو رقمت لكفروها لأن صوتها عورة…والرقيم هو نشيد البلبل الغريد….
فن التكفير…والعالَم كله كافر إلا من على تلك الضفة….والدين الذي نزل رحمة للناس صار نقمة على كل شيء….تشددوا في الأحكام ولم يفهموا ان الأمر مرتبط بالإحكام لا بالأحكام..حكمة الحكم سر الحكم لا الحكم ذاته دون حكمته…
كل ما يأتي من مكتشفات العلم ونِعَم الخالق على المخلوق كشفا وتحقيقا ودرسا وتدقيقا وبحثا وتعميقا وفنا وتنسيقا…بدعة يسحبها قلب أعمى إلى النار!!!
أغلق إذا قلبك وعقلك…إياك والموسيقى فهي تذهب قلبك..واحذر الرسم فهو يتلف عقلك..والشعر وغوايته ….والأدب وروايته….والنحت جريمة…والمسرح عبث…والفن مجرّم محرّم…كفر مطلق…
أُمَّتُنَا والفَن…أو أَمِتْنَا والفن..ضفتان لمأساة واحدة…أمتنا تموت في كل يوم يموت فيه فنها وأصالتها وعبقري شذاها….ضفتان..تأملهما جيدا..ضفة التكفين…وضفة التكفير…… أجل..تكفي (ن) وتكفي (ر) ليفترس الموت ما بين الضفتين…أمتنا..ونحن….
نون للندم والنذالة والنجاسة والناعقين بخراب الامم..وللعميان والخصيان والشيطان …ولبني صهيون وفتنهم فينا ومرتزقتهم المبثثوين بيننا….نون تطاول نون النور والفن والإنسان …نون الرحمن والقرآن والإيمان..نون النّفس المطمئنة ونفَس الفنان…
راء للرهبة والرجعية والرجفان والرفض المريض للحياة وللآخر وللآتي والحاضر والانكفاء على فهم موهوم للماضي ولفترة منه….راء للرعب والرجم ..لكره كل شيء وقبر كل شيء…راء تنظر بحقد لراء الرحمة والروح والروحانية والرضا والرضوان والربانية والروعة والريحان والريح المبشرة بكل خير….
هل تعتقد أني بسيط جدا حتى أنسب كل الإشكال إلى حرفين فقط..هنالك حروف أخرى كثيرة تطاول حروفا مشابهة لها في النطق مغايرة في الدلالة….لا تحكم أني أشير إلى “مؤامرة”…كلمة تنطلق كصفارة إنذار في مدينة يسكنها الفزع…ربما تكون صيحة الراعي الكاذب الذي جمع أهل القرية صراخا لأن الذئب يهاجم الغنم…ولم يكن من ذئب ولا شيء سوى ضحك الراعي اللئيم..الذئب حينها كان يراقب الوضع ويخطط بهدوء ويضحك بمكر….هل تآمر الذئب على الراعي…مطلقا..هو فقط درس الواقع وخطط وفقه..وحين جاء نعيق الراعي في المرة الثانية لم يلتفت إليه أحد ومضى مع غنماته الجميلات وجبة للذئاب المحترمة…صافرة الانذار قد تكذب…والمنظرون بالمؤامرة نعقوا حتى لم يعد أحد يسمعهم ..الذئب البشري ضحك مرة أخرى واستمتع بوجبته…لكنه لم ياكل الراعي…بل اتفق معه…..
الفن ساقني إلى كل هذا!!!! …
حسنا..تجدون مكتوبا على علب الأدوية..يمنع إبقاؤها بين يدي الأطفال…وكذلك علب اللغة كتب عليها..يمنع إبقاؤها بين يدي المجانين..خاصة الذين يعرفون الكتابة!!!
…
خلوة قلبي – النشيع – مزرعة في ضواحي طرابلس
25/05/2010 07:16:07 م