إبليس..ذلك العالم الذليل (من كتاب تأملات قرآنية)

2 دقائق للقراءة

مما لا شك فيه أن إبليس من العارفين الكبار، بل هو أعرف الجن حتى بلغ مراتب الملائكة، وهو الذي شهِد الملأ الأعلى وكلّم الحضرة مباشرة، مقام لا يُضاهيه مقام، ثم انظر إلى لغات العوالم وعلومها تجده عالما بها بارعا فيها، وفي تاريخ آدم وبنيه كان الشاهد على الحقب والحضارات والأمم والشعوب والحروب والقصص، شهد جميع الأنبياء ورأى كل المعجزات وهو مؤمن إيمانا راسخا أن الله حق وأن الأنبياء على حق، لكنه لا يوقف تيّار الوسوسة الجارف لكل قلب مريض ونفس استبدّ بها الهوى.
هذا الشيطان الأول، الذي كان من نسله شياطين العالم السفلي، وينتمي إليه شياطين الإنس والجن، عالم لا يُشقُّ له غُبار، لكنّه برغم ذلك كلّه، عالم ذليل، لا عالم جليل.
دراسة النفس الشيطانية الأولى وتركيباتها من خلال الشاهد القرآني، وتوصيفات الخالق لذلك المخلوق وهو به أدرى، في باب الغواية الأولى والامتناع عن السجود: “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) البقرة”.
أو عمله في قلوب الأشقياء وحربه مع جنوده على الرسل والأنبياء والأتقياء الأوفياء، ثم مشاهد النهايات وما بعدها لمّا قُضي الأمر فتبرأ من أتباعه وقال لهم لا تلوموني ولوموا أنفسكم (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) إبراهيم)
كل هذا مهم في تفكيك الشر الشيطاني كمرض أصابت عدواه البشرية وتستمر. كما أنه مهم لفهم الشخصيات المتأثرة به لأنها انعكاس لطبيعته.
أليس في الأمة اليوم مثلا علماء بلغوا من العلم مقاما ومن الكِبَر عتيًّا، ولكنهم اتبعوا خطوات الشيطان، ولطخوا أيديهم بدماء الأبرياء، فتاواهم تقطر دما، كلامهم المعسول خلفهم سمّ زعاف قتل عقولا وضمائر، قام أصحابها بترويع الآمنين وقتل المؤمنين وتفجير المساجد والمقامات والكنائس.
بل أليس في تاريخ أمتنا أمثالهم مِمَّن كانوا وبالا على الإسلام والمسلمين، وهم جذور الشجرة الملعونة التي تهدد العالم كله اليوم، بالتكفير والتفجير وعقائد الأبالسة المقنّعة بأقعنة الدين وهو بريء منها.
كم عالما ذليلا حسبناه عالما جليلا، وكان كسيّده وإمامه إبليس، مجرّد فاسق آخر يدّعي العلم وهو جاهل، فلا خير في علم لم تلمس قلب صحابه رحمه، ولم يكن له تواضع العارفين الحق، ولم يخضع بالتسليم للخالق العظيم، ولحكمته وتدبيره وحسن تقديره. لا خير في عالم لم يكن من ثمر علمه بناء وخير وصلاح ونفع، بل وظّف علمه لخدمة غرور نفسه وطمعه وأحقاده.
بين إبليس الجني، وأبالسة البشر، وشائج كبيرة، تشابهت قلوبهم، وحربنا عليهم جميعا بالعلم والأدب ومنهاج الحق حرب واحدة مفروضة وواجبة: “إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا (6) فاطر”.

سوسة
‏06‏-07‏-2017‏ 14:07:50

مقالات ذات صلة

صمت وكلام
حين تقرر الصمت، لكن قلبك يرفض أن يصمت.حديث القلب حديث قلق متوجس، مشحون بالعاطفة.أما حديث العقل فرصين، وفيه الكثير مما يمكن أن يترجم بلغة...
3 دقائق للقراءة
بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء
من كتابي: تأملات وجودية بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء ولقد اتفقت الانسانية بجميع حضاراتها، وعلى مدى تاريخها، واختلاف أديانها، أن الانسان روح وجسد، معنى...
3 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
عز (من كتاب فن السعادة)
ما هو العز؟وما معنى “عزيز القوم”؟وماذا تعني الكلمة النبوية العظيمة: ارحموا عزيز قوم ذل. والعز لغة ضد الذل. العز سؤدد ومجد.ورجل عزيز هو رجل...
2 دقائق للقراءة
خيوط متشابكة
كلما ظننتَ أن الحرب انتهت، ستجد أنها تجددت بشكل لا تتوقعه. العالم البشري عالم صراع وحروب، تاريخه يشهد. وما رسمه التاريخ ليس سوى تطبيق...
< 1 دقيقة للقراءة
مستقبل الفلسفة…بين سموم الواقع…وسم سقراط
هل للفلسفة مستقبل في هذا العالم “الغثائي” الذي يمضي في نسق سريع نحو أقصى درجات ذكاء الآلة وأقصى درجات الغباء البشري، في تفاعل بينهما،...
2 دقائق للقراءة
عصا موسى: بين عين النقص وعين الكمال
كان موسى يعرف العصا، ولم يكن يعرفها. لقد صحبته عشر سنين يرعى الأغنام فيهش بها على غنمه، ولم يكن يدري سرّها. وكان يصحب نفسه...
4 دقائق للقراءة
في الكاتب والكتاب
الكتاب كالصّاحب، عليك أن تحسن اختياره، فهو سيصحبك في دروب الفكر والتأمل، أو سيودي بك إلى المهالك، وكما أنّه ليس أضر من الصاحب السوء،...
2 دقائق للقراءة
تأملات في الدال والمدلول وروح اللغة
كل شيء معقد حين تجهله. وكل شيء بسيط حين تعرفه. وأنت تجلس بجانب صيني يمازح صديقه، سيكون كلامه معقدا، وكذلك كلامك حين يسمعه، ولو...
2 دقائق للقراءة
تأملات في الكون والتكوين
كل شيء بسيط حين تنظر في ظاهره، وكل شيء معقد حين تتوغل في أعماقه، فترى كم أن التركيب دقيق والنسيج رقيق والصغير شاسع والمحدود...
< 1 دقيقة للقراءة