6 دقائق للقراءة
تعتبر مسألة العذاب مسألة مفصلية، كما أن ذكر العذاب في القرآن الكريم ذكر مكثف وكثير. وهو على بابين كبيرين: باب دنيوي، حيث تسليط العذاب والعقاب على الظلمة والمستكبرين بأشكال شتى، فرديا أو جماعيا. وباب عذاب أخروي للكافرين وأعداء الله وأنبيائه وجنود إبليس وأعوان الشر.
والعذاب الدنيوي على بابين أيضا:
باب عذاب تم ووقع وفيه عبرة ونظر. فقد ورد في كتاب الله ذكر مختارات من أخبار الأمم الغابرة وكيف أن الله سبحانه وتعالى سلّط عليها العذاب ضمن شروط وآجال حكمة وحكم قهري. وقد أورد الله سبحانه وتعالى حكما عاما مفاده أنه عذّب وأهلك كل قرى البغي والفساد بظلمهم، وجعل لذلك موعدا دقيقا لا تعجيل ولا تأخير له: “وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (59)
وتجد خبر قوم نوح وهلاكهم بالطوفان، وهلاك عاد وثمود (أقوام صالح وهود) وقوم لوط (سدوم وعمورية) وقوم شعيب (أهل مدين) وهلاك فرعون وهامان وقارون (الذين حاربوا نبي الله موسى)، وصولا إلى هلاك أصحاب الفيل ضمن آخر عملية نوعية مباشرة في البعد المادي للجيش الرباني.
وباب عذاب أنذر به الله سبحانه ضمن نسق مستقبلي يبدأ مع لحظة نزول القرآن الكريم على الحبيب محمد إلى تحقق وعد الآخرة، ويليه باب كبير لأهول يوم القيامة وقيام الساعة وهلاك كل الأحياء ودمار الكون، ويكون ذلك بابا للآخرة وعذابات أهل الجحيم.
والآيات بشأن عذاب الآخرة جلية المبنى واضحة المعنى، كقوله عز من قائل في سورة الحج: ” فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22).
فالمعنى جلي واضح، وقد وردت آيات تصف عذاب أفراد، وأخرى تصف العذاب لجميع من في النار، وأخرى فصلت بين المستكبرين والمستضعفين الذين كانوا لهم تبعا، وغيرها من المسائل.
أما آيات العذاب المستقبلي ضمن أطر الدنيا والزمن الأرضي المادي فهي بين الوضوح والإبهام ،كالوعد والدخان وما شابه. أي تتعلق بإشارات مستقبلية تحدث في الدنيا وقبل قيام الساعة، والآيات في الباب كثيرة.
والحكم العام (كما بيناه في قانون الهلاك العام ضمن كتاب القانون في موسوعة البرهان) مفاده أنه ما من قرية (أمة، حضارة) إلا وسيسلط الله سبحانه وتعالى عليها العذاب والعقاب بشكل مباشر، وهو حكم قطعي حتمي لا تبديل له: “”وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)” (الإسراء)
والآية فيها بيان أن ذلك مستمر إلى يوم القيامة، وأنه قدر مكتوب وقضاء نافذ مسطور، تتخلله ضربات نوعية وقوارع حتى يأتي العذاب الكامل المباشر العيني ويتحقق الوعد الأكيد: “وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)” (الرعد).
وهي في نظري تجعل آيات العذاب التي تصف ما كان من شأن الأمم الهالكة إشارات للعذاب الذي سيأتي في الأمة المعدودة التي سيكون فيها التنفيذ: “وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ۗ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) (هود).
صحيح أن هذا يشمل الساعة التي تقوم على أمة محددة، فيها أهوال وأحوال يشيب لها الولدان: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)” (الحج).
ولكنه أيضا يشمل أمة سابقة لها تجتمع فيها جميع شرور الأمم السابقة، وتذوق الويلات نفسها وأكثر.
وهنا كان تقسيمي المنهجي المعتمد في هذا الكتاب عن عاد الأولى وعاد الآخرة، وهي أكفر وأطغى.
وعن فرعون الأول وفرعون الأمة الأخيرة، والذي سيكون أشد قوة وأكثر طغيانا.
والأمة المعدودة هي مزيج كل الامم السابقة وشرورها فنجد قوم لوط في آخر الزمان أكثر جراءة وشذوذا وإظهارا للفاحشة من قرية سدوم وعمورية، والعالم اليوم خير شاهد حيث تم تقنين زواج الشواذ ولهم جمعيات ودول حاضنة ومجتمع سموه مجتمع الميم يخترق كل مجتمعات العالم، فأين ذلك من شرذمة في قريتين؟
وأين أساطيل وقوى الحرب اليوم من جيش فرعون الأول؟
وأين جاهلية آخر الزمان من الجاهلية قبل الاسلام، فقد كان لأولئك القوم مروءة وقيم لا نجد شيئا منها في فلول الجاهلية الأخيرة، ولعل القرآن الكريم حمل إشارة رقمية حين تم ترقيم الجاهلية قبل البعثة بالجاهلية الأولى: ” تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ (33)” (الأحزاب).
مما يعني وجود جاهلية ثانية وثالثة….
وهنالك إشارات كثيرة في أحاديث الحبيب المصطفى تدل على تكرر الجاهلية وتكرر القرى الهالكة في منحى بشري نحو الدمار الذاتي والسير على خطى الغابرين والهالكين بشكل مطابق في المنهج ومتضاعف في المستوى. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه”. وهو حديث ولئن كان يتعلق بأمة الاسلام من جانب، وبإشارة إلى أهل الكتاب السابقين (اليهود والنصارى) كما في تتمة الحديث، فإني أراه اشمل من ذلك، ويتعلق بسلوك البشر في الأمة الأخيرة أو أمة وعد الآخرة سلوك من سبقهم من ذرية آدم في شتى صنوف الفساد والطغيان، والواقع خير دليل ولا يحتاج الأمر إلى تأصيل أو تفصيل.
وإذا كان السلوك في تلك المطابقة فاليقيني أن العذاب سيكون بذات المطابقة.
وإذا كان مستوى الفساد ارتفع بأضعاف كثيرة، فإن مستوى العقاب والعذاب سيكون مضاعفا أيضا.
وهنا يكون مجال النظر في آيات العذاب وقصص العقاب في القرآن الكريم، سواء المتعلقة بالأمم الخالية أو بما سيأتي، ضمن المنهجية التي ذكرت:
*آيات عذاب وقصص عقاب سابقة فيها نذر ما سيأتي لمن شرح الله صدره للفهم.
*آيات عذاب مبهم مستقبلي فيها نذير ووعد بدمار وعقاب الأمة المعنية (وهم أهل الشر في البشرية كلها) في الوقت المحدد.
*آيات عذاب جلية اللفظ تتعلق بالساعة وزلزلتها وأهوال القيامة ثم عذاب المعذبين في جهنم.
وضمن الصنف الثاني أي العذاب القادم ضمن خط الزمن الدنيوي، هنالك تفصيلات لأنواع العذابات والعقوبات، ومن بينها عذاب يقع من فوق، وليس فقط يقع من باب الحدوث. فانظر: “سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) (المعارج).
قوله سبحانه “واقع” تحمل دلالة الوقوع بمعانيه: وقع لهم ووقع عليهم. وفي تفسير الطبري نقلا عن الضحاك: “واقع على الكافرين، واللام في قوله: ( لِلْكَافِرِينَ ) من صلة الواقع”.. فما يقع لهم هو الأمر برمته، وما يقع عليهم هو تفصيل من ذلك متصل بالمعارج التي تحمل معنى مدارات الكواكب والعوالم أيضا. وهنا نجد مسألة نيبيرو والمذنبات والكويكبات التي تهدد الأرض وكذلك الطارق والدخان وحتى ياجوج وماجوج ففي اعتقادي خبرهما يتعلق بالفضاء وليس بالأرض، ولهذا الكلام مجال بسطنا بعضه في موسوعة البرهان ولعلنا نفصله أكثر في غيرها.
وكذلك فالآيات تشير إلى تفعيل لقوى في الأرض كما يتم تفعيل قوى من الفضاء، مثل خسف جانب من البر، وما شابه. وكنا ذكر في متن الكتاب الكثير منها.
إن العذاب حتمية، لم تنج منه أمة في تاريخ الأرض مهما طال زمن ازدهارها ومهما بلغت من قوة، فلا بد أن ينخرها الشر وتسري عليها سنة الله وتحق عليها الكلمة.
والله عز وجل حين يذكر العذاب بنسبة الفعل إليه، فالأمر أكبر من الحروب والقتل بالسيف كما تجد في التفاسير، وأكبر حتى من قنبلة هيروشيما ومن قنابل الانشطار والانصهار الذري، ولئن كان ذلك شيء من العذاب، ولكن عذاب الله أشد وعقابه أعظم.
ونتيجة لهذا فإن على المؤمن ما يلي (في اعتقادي):
*أولا القناعة التامة أن الله سبحانه سيعاقب أهل الطغيان والفجور لا محالة في زمن محدد، وهو ليس بالبعيد بما أن الساعة نفسها كانت قريبة في كلام الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام:”إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15)” (طه).
فما بالك اليوم.
*أن تكون تلك القناعة دافعا له للسعي نحو الخير وعدم الوقوع في مهاوي الشر، وعدم اليأس مما يرى من صنيع الفجرة.
*أن يسأل الله اللطف به وبمن كان في سلسلة المحبة الرحمانية، فلا شيء أجدى فيما سيأتي من لطف الله، لأن وعد الله حق، وقريب.
*أن يقوم أهل العلم والفضل والدعوة بتحذير الناس من السير خلف شياطين الانس في سعيهم لتدمير البشرية عبر تدمير أخلاقها، وتذكيرهم أن عذاب الله واقع لا محالة بالظالمين، ولا راد له، في الدنيا والآخرة، وهذا يشحذ القلوب المؤمنة لتستقيم.
أما أن يكون الخطاب الديني غارقا في الاسرائيليات ميّالا للخرافة مجافيا للعلم منافيا للمنطق، لا يرى من خلال الماضي وما ذكر الله بشأنه وما ذكر التاريخ عبرا للآتي، ولا يستشرف ما سيأتي ضمن علم الأشراط وضمن الدعوة الجبريلية للنظر في المستقبليات عند سؤاله للحبيب محمد عن أشراط الساعة، وما ذلك إلا بأمر الله ودعوته، فإنه بذلك يكون خطابا جافا عبثيا عدمي الناتج.
فهذا بيان، وما تخطه السطور اليوم، ستكشف عنه المقادير غدا، وسوف يرى البشر ذات يوم (لعله أقرب مما نتوقع) أن القوة لله جميعا، وأن الله لا يخلف وعده، ولا يترك أهل الظلم على بغيهم، ولا أهل الحق على ما هم عليه من عسر وما هم فيه من بلاء.
“وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)” (البقرة).
سوسة 02/08/19 23:13