3 دقائق للقراءة
من كتابنا: كتاب الإشراقات، الجزء الثاني
لم يجعل الله لخلقه عطاء أعظم من اللطف.
ولم يكتب لهم حسنة أعظم من رحمته.
الله سبحانه جواد كريم، وغفور رحيم.
خزائنه لا تنقص مع كثرة البذل والعطاء. وقد سماها خزائن الرحمة.
﴿أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَاۤىِٕنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡوَهَّابِ﴾[1].
فربط عطاءه برحمته.
وعطاؤه عام لكل خلقه.
﴿كُلࣰّا نُّمِدُّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ وَهَـٰۤؤُلَاۤءِ مِنۡ عَطَاۤءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَاۤءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا﴾[2].
ولكن أعظم عطاء من الله هو اللطف.
لأن لطفه إذا اكتنف أحدا من عباده فلا يضره شيء، ولا يضيره شيء.
فإن كان غنيا وشمله اللطف نبع من نفسه السخاء ومن قلبه الشكر، ووقي الشح والبطر والجحود.
وإن كان فقيرا واكتنفه اللطف أشرقت في نفسه شمس القناعة التي تضيء كل ركن مظلم، وتجعل الفقد وجدا. فهو شاكر لله حامد لربه قانع بما أعطاه لا يسأل الناس إلحافا ويأتيه رزقه من حيث لا يحتسب.
وإن كان في بلاء واكتنفه اللطف رفع الله عنه بلاءه وأثابه على صبره خيرا.
وإن كان في رخاء واكتنفه اللطف لهج لسانه بالشكر وامتلأ قلبه بالذكر وأضاء عقله بالفكر، فلم يصرفه الرخاء عن باب مولاه، ولا نسي فضله وشكر سواه.
فليس أعظم من اللطف عطاء، ولا أسخى من اللطيف الخبير.
وأما الحسنات فهداية من الله إلى فعل الخيرات والسبق إلى الصالحات.
﴿ وَمَن یَقۡتَرِفۡ حَسَنَةࣰ نَّزِدۡ لَهُۥ فِیهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ شَكُورٌ﴾[3].
ولكن جميع حسنات الخلق لو وضعت في كفة، ووضعت رحمة الله في كفة، لرجحت رحمة الله.
فلم يكتب الله حسنة لخلقه أعظم من رحمته.
فلولا رحمة منه ما هداهم إلى الخير ولا نهاهم عن الشر، ولا حبّب إليهم الحق وكرّه إليهم الباطل.
﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ﴾[4].
وأي حسنة ترجى للعبد أعظم من أن يرحمه ربه. فلو أنه وقف بين يدي الله بحسناته واحتكم إلى عدل الله لذابت حسناته كلها أمام سابق فضل الله، ولكان اجتراحه للذنب وهو في ملك العظيم وعلى عينه وشهد على ذلك الحفظة والشاهدون كافيا ليحبط عمله كله وتضمحل حسناته جميعا بذنب واحد.
ولو أنه عرض حسناته في سوق القيامة ليشتري بها يوما واحدا في الجنة لقيل له إن عليك دَيْنا من نعم الله أن خلقك وأنطقك ورزقك ووفّقك وأنعم عليك بالعين التي نظرت بها والسمع الذي سمعت به، والعقل الذي عقِل به، والقلب الذي فقه به.
﴿أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَیۡنَیۡنِ ` وَلِسَانࣰا وَشَفَتَیۡنِ `وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾[5].
ثم لعرضت عليه نعم الله مما أحصى ومما أحصت الملائكة ومما لم يحص إلا الله. فمن أين لعبد أن يدفع دَيْن الله.
ولكن رحمته تمحو الذنب، وتضع الوزر، وتزيد على النعم نعيما.
فتلك رحمة الله التي كتبها على نفسه.
﴿وَإِذَا جَاۤءَكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِـَٔایَـٰتِنَا فَقُلۡ سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُمۡۖ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ أَنَّهُۥ مَنۡ عَمِلَ مِنكُمۡ سُوۤءَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾[6].
وتلك رحمة الله التي جعلها لمن شاء من عباده، فهي أعظم حسناتهم يوم يلقونه، بل لا يجدون حسنة لهم سواها، إذ كل حسنة سبقت منهم كانت برحمة من الله وفضل.
وإن من جواهر تلك الرحمة العظيمة أن بعث رحمته المهداة.
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾[7].
فهو مجمع رحمة الله، وباب رحمة الله، والهادي برحمة من الله.
﴿فَبِمَا رَحۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ ﴾[8].
فتلك آثار رحمة الله التي ينجو بها من نجى، ويهلك من دونها من هلك.
﴿فَٱنظُرۡ إِلَىٰۤ ءَاثَـٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ كَیۡفَ یُحۡیِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۤ إِنَّ ذَ لِكَ لَمُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ﴾[9].
[1] ص الآية ٩
[2] الإسراء الآية ٢٠
[3] الشورى الآية ٢٣
[4] الحجرات الآية ٧
[5] البلد الآيات 8-10
[6] الأنعام الآية ٥٤
[7] الأنبياء الآية ١٠٧
[8] آل عمران الآية ١٥٩
[9] الروم الآية ٥٠