3 دقائق للقراءة
في حوار مع شاب ملحد، أو هكذا يسمي نفسه، قلت له: “هل تنكر وجود الله أم تنكر الأديان”.
قال لي: لا وجود لله. والأديان كذبة.
قلت له: خلق هذا العالم أو وجوده يفترض موجدا، مكوّنا.
وبعد حوار غير متكافئ انتهت الحيل التي أملوها عليه، فأقر أن الله موجود، لكنه أصر على نفي الدين، والقرآن، فسألته: هل مشكلتك مع الإسلام والقرآن أم مع ما تراه ممن ينسبون أنفسهم إلى الإسلام وهم ينشرون الجهل أو يقتلون الناس.
قال: مع هؤلاء.
وفي نهاية حوارنا (وكان والده قد أتى به للقائي ومناقشتي) كان قد أقر بوجود الله وبأن القرآن كتاب الله وأن الإسلام براء مما يفعل الذين يظلمونه بادعائهم له.
حين غادر الشاب مكتبي، كنت على يقين أنه لن يرجع، لأن الذين سقوه ذلك السم لن يتركوه، ولأن المسألة عنده أبعد ما تكون عن فلسفة الألوهية والوجوديات، فقط “موضة” وتيار يجد فيه ذاته وقيمته ويرى من خوف واهتمام أهله ما يشجعه لأن له مكانة لم يكن يُحظى بها حين كان “مجرد مسلم عادي”، فانتماؤه للملحدين مسألة نشوة وتكسير للروتين. لكن عند الذين برمجوا عقله فالأمر مختلف تماما: إنه مشروع كبير مدعوم مموّل يمثل الموجة الارتدادية لتسونامي داعش والرد الطبيعي المتوقع من الكثير من الشباب أمام فتاوى وخبل الوهابيين ومقدار السخافات والأكاذيب والوضع في الكتب القديمة أعنيها جميعا، إلا القرآن المحفوظ.
حين تقوم ببحث قصير في غوغل وفي الأنرنت، سوف تُصدم من كثرة المواقع والصفحات الإلحادية، وسوف تكون صدمتك اكبر حين ترى أعداد الشباب المعتنقين للإلحاد من عالمنا العربي. كما أن عملية متابعة لأشهر قليلة سوف تبيّن لك تطوّر وتسارع الأمور، كما ستجد خطابات ومقالات بين نفي وجود الخالق، ونفي الديانات الإبراهيمية، والتكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى ديانات بديلة، كديانة سموها “الإبليسية الروحانية”، وهي لعبدة الشيطان.
لكي ألخص في مسألة الإلحاد من باب التحليل والتفكيك، وبعد متابعة لسنوات، أقول:
*تيارات الإلحاد تنقسم في اعتقادي إلى خمسة أنواع مختلفة جزئيا:
**تيّار إلحادي يدعي معتنقوه أن الله مجرد وهم، ويدعم هذا فلاسفة معاصرون وعلماء طبيعة وفيزياء يبررون بما استطاعوا لأفكارهم ويتبعهم كثيرون.
**تيّار إلحادي يقول أن الله موجود ولكنه شرّير خلق الشر وفعله، فهو من أغرق قوم نوح وهو من قتل قوم لوط (كلام حرفي من فيديو تمثيلي لمجموعة تتقمص دور فرقة من الماسونية).
**تيّار يرى أن الله موجود، ولكن الديانات الإبراهيمية كلها كاذبة، وهي تدعو للتخلف، فيقول قائلهم (نقلا من أحد مواقعهم): نحن لا إشكال لنا مع الخالق، مشكلتنا مع الديانات الإبراهيمية التي تسيطر عليها الخرافات والخزعبلات، ويدحضها العلم.
**تيّار ينكر الإسلام حصرا، والقرآن تحديدا، ونبوة النبي محمد، فهم يلحدون بكتاب الله من باب إنكار الدين والدعوة إلا اللادين، لا من باب النقاش العقائدي أو التشكيك من أهل الديانات السابقة للإسلام المحمدي.
**تيّار يلحد بالكتب التي تدعي أنها من الله، فيبحث في المتهافت في التوراة والانجيل، وفي الأحاديث النبوية، وبشكل أقل في آيات القرآن التي يرون فيها تناقضا صريحا مع العلم ككون الله خلق آدم وحواء، مدافعين بنظرية التطور، أو خلق الله للكون في ستة أيام، مدافعين بآخر ما نظّر المنظّرون أو اكتشفوا حول خلق العالم.
لكل تيّار من هذه التيارات براهينه التي يقدّمها لمن يتعبونه، وأدلّته التي يراها دامغة لمن يجادلونه، ونحن أمام حقيقتين واضحتين:
*الأولى أن الإلحاد تيّار موجود فعلا، وليس مجرّد “نظرية مؤامرة” كما يحلو لمن يريدون دفن كل من يحذّر من وجود خطر على الأمة بأنه من أتباع تلك “النظرية”. مع أن حقيقة التآمر على الأمة وعلى وجود الإنسان ككل ومعناه تم تجاوزها إلى تطبيقات تلك النظريات وتنفيذ تلك المخططات.
*الثانية أن الوضع العام يخدم الملاحدة المنظرين، وييسّر عليهم التأثير في أعداد أكبر من الشباب، للدور الناجع والناجح الذي يقوم به الوهابية والدواعش في تشويه الإسلام، وللفراغ القيمي والروحي لمجتمعات ما بعد العولمة، وللقوة التأثيرية الهائلة لمواقع التواصل الاجتماعي ومؤثرات الميديا. ولأن هنالك تقصيرا كبيرا من قبل العلماء المسلمين ومن قبل الأنظمة والمجتمعات في تقييم الوضع ومدى خطورته والتعامل بالجدية المناسبة مع التيارات الإلحادية وما يدور في فلكها من نزعات لا أخلاقية ولا دينية وشاذة. وهي في جوهرها وجه آخر للتطرف باسم الدين وباسم الله، والتطرف يخدم بعضه.
في المقالات القادمة سنعالج ونحلل المسائل التالية:
*الإلحاد كتيار وكوجود تاريخي وواقعي: الأصل والحقيقة.
**التيارات الإلحادية المختلفة: تفكيك كل تيار وبيان أسسه ومنابعه وبراهينه ومرتكزاته وحججه ودحضها.
***خطر الإلحاد، والحلول التي يمكن بها مواجهة انتشاره