6 دقائق للقراءة
الإلحاد: بين الحقيقة والوهم
(شجرة الإلحاد: الأسباب والدوافع)
حين نقرأ للملاحدة، وحين يكون النظر عميقا منطقيا وفلسفيا ونفسيّا أيضا، يمكن أن نفهم ما أسميه “شجرة الإلحاد”، والتي تمتد جذورها في أول جحود لمخلوق عاند خالقه، فالجحود والعناد ملازمان للإلحاد، ولكن توجد في تلك الشجرة أغصان تجهل حقيقة المسألة وتتبع اتباع الأعمى.
أما ما يغذي تلك الشجرة فليس كثرة الأدلة على عدم وجود الخالق، بل ما يقدّمه المتكلمون باسمه زورا من محفّزات تدفع للإلحاد بما يقولون وبالرب الذي يرسمون صورته، وليس أدل على ذلك من أن الكنيسة في القرون الوسطى بما كانت تقوم به من قمع وقتل وحرق للعلماء والفلاسفة باسم الرب، وما كانت تنشره من سخافات وأكاذيب ومغالطات أثبت العلم بهتانها، دفعت فلاسفة التنوير إلى الإلحاد وساهمت في نشره في اوروبا منذ تلك الفترة إلى اليوم، وكذلك فإن الوهابية في وقتنا الحاضر تساهم مساهمة مباشرة بالتكفير والخرافات وتجسيم الله والإساءة إلى الاسلام في إلحاد أعداد كبيرة من شباب المسلمين خاصة الذين يعيشون في مناطق نفوذ الفكر الوهابي.
أما المسائل العلمية والبراهين التي يسوقها الملاحدة فيمكن مناقشتها تفصيليا، إلا أن ذلك لا يعني أن المسالة علمية مجردة، بل لا تخلو من دوافع ومسببات أراها ثلاثة دواقع:
1/ردّة الفعل الفكرية على خرافات أدعياء الدين: فالإلحاد ردة فعل فكرية وثقافية على سوء ما يصنع أدعياء الدين وسماسرته، وعلى ما دس الوضاعون في كلام الأنبياء، فالتخاريف الفارغة والتصورات الخاطئة عن الكون والعالم التي يدسّها وضّاع جاهل في كلام نبي عالم تجعل إسقاط ذلك الجهل على النبي دافعا لإنكار النبوة ككل، وما يفعله رجل دين من باطل وتطرف وما ينتج عن ذلك من مجازر ومآس (مجرزة القديس برطلماي في فرنسا في القرن السادس عشر أو ما تفعل داعش) دافع لإنكار الخالق نفسه، وفي الحقيقة هذا خلط مفهومي كبير: فالله ليس ما يفعله رجال الدين الكذبة، وهنالك رجال دين جيدون، والنظر يكون للقيمة الصادقة التي تمثل فعلا المنهج الإلهي لا للأدعياء والكذابين، وكذلك الأنبياء لا ذنب لهم فيما يدعي المدعون عنهم، فالمسيح ليس ما تقوله الكنيسة في جانب المسائل الخاطئة، وليس ما يفعل متطرف مسيحي، لذلك قال غاندي ” أنا أحب مسيحكم، لكني لا أحب مسيحيينكم. مسيحيينكم مختلفون جدا عن مسيحكم.
ونفس الأمر نبي الإسلام محمد ليس ما يفعله الوهابيون ولا ما ارتكبه المتطرفون طيلة التاريخ الإسلامي.
2/ الدافع النفسي: فالإلجاد في جانب منه أيضا ردة فعل نفسية، فلا يمكن تصور إلحاد هوكينغ بعيدا عن مرضه، وفي كتاب الملحدين الكثير من الذين أنهوا حياتهم بالانتحار لاحساسهم بفراغهم الوجودي، رغم كل ادعاءاتهم بالسعادة والراحة مع الالحاد، ومن أدلة ذلك الملحد إسماعيل أدهم ( 1901- 1940 م) الذي ألّف كتيّب “لماذا أنا ملحد” والذي قال فيه أنه سعيد مطمئن لهذا الإلحاد، تماما كما يشعر المؤمن بالله بالسعادة والسكينة، ولكنه وضع حدا لحياته “في مساء 23 يوليو 1940م وُجِدَتْ جثة إسماعيل أدهم طافية على مياه البحر المتوسط، وقد عثرت الشرطة في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين ويطلب إحراقها”.
وبالنظر إلى سجل الفلاسفة الملحدين سنجد الكثير من الحالات المماثلة، وكذلك في الشباب المتبع لهم، فعبدة الشيطان (طائفة عميقة الصلة بالملاحدة تكفر بالله وتؤمن بالشيطان) لهم أمراض نفسية عميقة تدفعهم للباس الاسود وثقب الوجه والقيام بطقوس تشمئز لها النفوس السليمة كشرب دم القطط السوداء وغير ذلك وسأخصص لهم مقالا أو أكثر لانتشارهم في العالم العربي ووجودهم في تونس). بل إن الفراغ الوجودي ونزوع كثير من الشباب الغربي وحتى في اليابان إلى الانتحار رغم رفاهية الحياة أو دخولهم في التنظيمات المتطرفة من النازيين الجدد إلى داعش دفع الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع المنصفين إلى البحث عن الأسباب العميقة والتي على رأسها عدم وجود إيمان ومعنى للحياة، كما ثبت بالبحوث النفسية أن “الإيمان يوفر محفزا قويا للاقبال على الحياة”، وذات الأمر في بحث طبي أن “الإيمان مساعد على تحقق الشفاء لدى المريض”.
3/ الدافع القصدي: فلئن ألحد بعض الفلاسفة بعد الثورة الفرنسية بسبب رفضهم للكنيسة وما فعلته بالفلاسفة والعلماء والناس من ظلم وجور وخدمة للظالمين ونشر للجهل والخرافات باسم الرب (وليس قتل غاليلي إلا نقطة من بحر) وقامت على ذلك نظريات فلاسفة كبار من أمثال نيتشة وكارل ماركس الذي قال: ” الدين هو حسرة المخلوق المقموع، و قلب العالم المتحجر القلب، و روح الأوضاع التي لا روح لها. إنه أفيون الشعوب”، ولهذا سياقهن فإن الحركة الصهيونية استثمرت ذلك لتخريب معتقدات الشعوب ونشر الالحاد بشكل ممنهج ومدروس، وهذا من مقالات زعمائهم ومن كتبهم، فانتشار الفساد والالحاد والتطرف بروتوكول مهم لدى حكماء صهيون، حتى يصير العالم غارقا في الفوضى ويجعل لهم قوة ونفوذا أكبر، وطبيعي أن أكبر عدو لهم هو الدين الإسلامي، وعليه تكون الحرب ذات بعدين: التطرف والقتل باسم الدين وهذا تمثله الوهابية وما نتج عنها من تنظيمات ارهابية. والتطرف باسم الحرية والثورة على الجهل والدين (أي على ما يقدمه النموذج الوهابي من محفزات) وهذا عبر الالحاد والنزعات اللاأخلاقية وعبر عبادة الشيطان والشذوذ الجنسي وما كان في فلك ذلك من إدمان وانتحار واجرام وفوضى، وبينهما نسيج هلامي يمثله أدعياء النبوة بعد النبي محمد الداعين إلى السلبية والخنوع وهم البهائية والقاديانية. وفي كل هذا يكون كل حاكم طاغ وكل مسؤول فاسد وكل مجتمع مفكك تنخره الأوبئة الأخلاقية مجالا ملائما لسريان مختلف تلك التيارات.
وإن اصحاب الدافع الفكري لا يخلون من نبل وفكر، أي أنهم يرفضون الانصياع لخرافات يرددها راهب في كنيسة (القرون الوسطى خاصة) أو شيخ تكفيري وهابي، ونحن نشترك معهم في الثورة على الاستخفاف بالعقول ونشر التخاريف الفارغة والكذب والافتراء على الله وعلى رسله وتكميم الأفواه وتحجير الفكر، طبيعي أنهم يجدون حججا دامغة في القرآن فيتجنبونه إلا من باب العناد والمكايدة إذ لم يبرهن أحد منهم على وجود خطأ واحد فيه، ولكن الأمر أكثر يسير فيا وصلنا من الكتب السماوية قبله (التوراة والانجيل) أو التفسيرات الملحقة بها كالتلمود، بما أن الوضع البشري فيها ظاهر، أو التفسيرات المسقطة التي ثبت خطؤها، كقول الكنيسة أن النّجوم معلقة بالسلاسل، وأن مجرة درب التبانة مجرد سلسلة من الضوء، والتي أثبت كوبرنيكوس وغاليلي ومرصد هابل فيما بعد أنها مجرد ترهات بشرية جاهلة، واعتذرت الكنيسة بعد مئات السنين من غاليلي بعد قتله لتلك المسائل ولقوله بدوران الأرض..
وكذلك يجدون يسرا كبيرا في الأحاديث الموضوعة في كتب السنة، والتي يصر مشايخ الوهابية على استخدامها بشكل يستفز على ذي عقل ويتضارب مع كل منطق، والتي تتنافى مع كل منهج علمي أو تفكير عقلاني، ومع حقائق العلم واكتشافاته، بحكم أن من وضعها كان مجرد بشري جاهل يتقمص صوت نبي مرسل، في حين يكون كلام النبي وحيا من الله تثبت صحته أكثر كلما تقدّمت العصور وتطورت الحضارة وازدهرت المعارف.
وهؤلاء (أصحاب الرد الفكري الثقافي) يستخدمهم أصحاب الدافع القصدي بادعاء مناصرتهم، وبتوفير المحفّزين لهم عبر تمويل المتطرفين ودعم المكفّرين ونشر الخزعبلات، أما البقية فهم تحت تأثير الدافع النفسي بشكل مباشر، وعليه يكون أصحاب الدافع القصدي (الصهاينة وحلفائهم) هم المعلّمون، والبقية تحت تأثيرهم وسيطرتهم، وحتى كبار العلماء الذين ألحدوا يعملون في خدمة المشروع الكبير والذي خرّب ويُخرّب المجتمع الانساني ككل، مع الأذرع الأخرى (إرهاب التكفير وإرهاب التعهير والشذوذ وتيارات العمالة والخنوع والفساد). مع استخدام ترسانة كبيرة من الاعلام بمختلف وسائطه وكل القدرات التي أصبحت لدى الإنسان لتصوير أفلام تٌقنع بالإلحاد، وأشهر ذلك ما تم تصويره وترويجه بشكل مباشر أو غير مباشر عن نظرية التطوير الداروينية ونظرية الأكوان المتوازية لهوكينغ.
إن الأمر يمضي في مسارات تجتمع كلها في أن هنالك خلطا بين رجال الدين والدين نفسه، فرجل الدين يمكن أن يكون ظالما أو عادلا، أما الدين الحق فهو مشكاة العدل الكامل، وكذلك يتم الخلط بين إنكار ما يقوم به من ينطقون باسم الله، مع الله نفسه، فيتم تقديم خطأ ما يقولونه على أنه دليل على عدم وجود الخالق، وهذا أيضا خلل منطقي كبير، أما الردات النفسية فهي عسيرة المعالجة، لأنها ستقوم على العناد لا على البرهان، فبالرغم من كل الادلة الدامغة على بطلان نظرية دارون فإن هنالك من يصر على صحّتها، وبالرغم من كل الحقائق الرهيبة التي يكتشفها الإنسان عن الذات وعن الكون والتي من المحال منطقيا وفيزيائيا ورياضيا أن تكون من مصدر عبثي أو مصادفة، يعاند الملاحدة ويجعلون تفسيرات أخرى يقحمونها إقحاما في تفسير وجود الوجود ونشأته وتطوّره واستمراره المذهل والمعقد والمحيّر، وفي هذا الصدد يقول “المعلّم المذهل” (كم اشتهر في الثقافة الأوروبية) الفيلسوف والعالم الطبيعي الانجليزي روجر بيكون Roger Bacon، (1214–1294): “لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن حقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلا عن أن يعرف كنه ذات الله”. وإن تطوّر الاكتشافات في مختلف مجالات العلم رسّخت هذا اليقين بتعقيد وكثافة السر الكامن في تركيب العالم والكون والكائنات والمكونات، فعوالم الذرة في تجزيئاتها الصغرى تكشف كل مرة عن جزيء أدنى وأكثر غرابة وتعقيدا (من النواة إلى الكواركز والهكزون وما دونها)، وكذلك التشفير الجيني للمخلوقات، وتمطط الكون وتسارعه، وأعداد المجرات والنجوم وأحجامها، وغيرها من مسائل تبرهن على صانعها وفاطرها وبارئها وخالقها بما لا يُبقي للملاحدة سوى المعاندة والتحيل على المنطق والبرهان العلمي بأساليب على غاية الدهاء وبإخراج شبيه بيوم الزينة وما فعله سحرة فرعون، فإلى الحبال التي تبدو كأنها تسعى، يلقيها دارون في عالم البيولوجيا وهوكينغ في عالم الفيزياء الكونية لاثبات أن الخلق لا يحتاج إلى خالق، وهو ما سنلقي عليه عصا الحكمة تلقف ما يأفكون.