16 دقائق للقراءة
ليس التصوف شجرة بلا جذور تعصف بها رياح الوقت. ولا هو جذور بلا أغصان قد قتلتها الأيام. بل هو أصل وفروع. جذر وأغصان. عمق في تراب التاريخ وامتداد في آفاق الحاضر يهفو نحو الآتي.
إنه عالم من الروحانية الآسرة، والأدب البديع، والشعر الرائع، والموسيقى المنسابة..
عالم تسري فيه قصائد أبي مدين الغوث والإمام الرواس وابن الفارض. في تناغم مع روائع رابعة وموسيقى القوّالي الهندية الجشتية، ورقصة الرومي مع شيخه التبريزي، رافعا يده في دوران يمثل دوران العالم ودوران كل شيء وسيرورته الحتمية إلى الله.
وهو كذلك عالم من الحكم والمعاني والغوامض والتجليات: فيه من فهوانيات النفري، ومن إشراقات السهروردي، ومكاشفات ابن عربي، وحكم ابن عطاء، ولدنيات الخضر يسامر أهل الحضرة بعد نصَب السفر في مجمع بحرَي الوصل والفصل، حيث يتخذ حوت أرواحهم سبيله في بحر اللطف سربا، فيكسر مركب أنفسهم، ويقتل غلام أهوائهم، ويقيم جدار قلوبهم، ليطيقوا معه صبرا.
عالم من العلم والفقه والتربية والتزكية والسلوك. رسم ملامحه أقطاب من أهل العلم والولاية والعقيدة الصحيحة، والفقه النقي من كل أدران التعصب والكراهية.
عالم من الفتوة والإباء والصمدانية التي لا تعزلها رحمانيتها عن جبروتية من فيض الجبار، فترى رجاله جبالا أمام الأهواء، وأسودا أمام الظلم والظالمين، يستقبلون الموت بابتسامة الحلاج، ويقفون أمام الغزاة وقفة الامام الشاذلي أمام جيوش لويس التاسع، ويتسلقون حبال المشانق ليشنقوا شانقيهم ويعيشوا اكثر من قاتليهم، كما فعل الشيخ المختار.
والتصوف تصوفان: تصوف نفقده كلما ابتعدنا عن أصوله وحُدنا عن ثوابته، وكثيرا ما نفعل إن عبرنا عن فعل البعض منا كما يعبر بعض قطر الماء عن المحيط من حيث التماسك والتفاعل.
وتصوف ننشده لعلنا نرى فيه عودة الأمجاد وتجدد القطبية التي لا يخلو منها زمان. ونرى فيها تحقق الوعد وظهور ما ننتظر.
وبين التصوفين تصوف يبحث عن ذاته. تصوف يفقد الكثير كلما اعتلى صهوة معانيه جاهل أو ركب ذروة مبانية أفّاك. ويفقد الكثير بسبب كثرة الشبهات وقلة الردود أو قلة علم أصحابها. وغربة العلماء النيرين والربانيين العارفين وفقر أيديهم، أمام من اغتنت جيوبهم وافتقرت قلوبهم. ويفقد من دمائه كلما كفّر مكفّر أو فجّر مفجّر جسدا استحوذ عليه مس الشياطين في مقام أو مسجد لأن من فيه من أهل التصوف “القبوريين المشركين” كما أقنعته غواية شيوخ جهنم.
تصوف ينشد خلاص الإنسانية، ويعجز أن يخلص نفسه من أدران كثيرة شوهت نقاء صورته وكدّرت صفو مائه.
ولكن في الجهة المضيئة ملامح خير لرجال خير من أهل التصوف الحق الذين لا ينقطعون زمانا ولا مكانا. فهم أبدال الوقت، ومعادن الحكم، وينابيع الرحمة، وسرج الهداية.
فتلك حالة الأصل مع فروعه، وذلك حال الفرع مع أصوله. وقد يغلب الحال على المقال، أو يعجز المقال عن تفسير الحال.
ولقد تفرعت عن الأصل الصوفي فروع كثيرة، ضمن دوائر مكانية وزمانية اتصلت بأقطاب واصلين ورجال صالحين ودعاة مخلصين انتقل الكثير منهم في أرض الله سياحة وعبادة ودعوة.
ولم تمنعهم مشاق السفر في تلك الأوقات من الوصول إلى شبه القارة الهندية وبلاد الملايو والصين، ولا من التوغل في العمق الافريقي.
والمحقق في أنساب هؤلاء الرجال سيجدهم من سلالة النبي ﷺ وبقية آل البيت عليهم السلام، أو من نسل الصحابة رضي الله عنهم.
وبما أنهم أكثر من أن نتمكن في كتاب من حصرهم، فإن المشروع الذي نطمح في إنجازه بالتعاون مع أهل التصوف ومشايخه عبر العالم، هو:
1/ “أطلس الطرق الصوفية”: ليكون معجما مدققا مفصلا عن التحرك الجغرافي والتاريخي للفروع الصوفية ورجالها. بمعنى كيف ساهم التصوف في نشر الإسلام عبر العالم وكيف كانت حركة الطرق ورجالها؟؟
ومثال ذلك الجشتية في شبه القارة الهندية، ودور الخواجة معين الدين الجشتي وخلفائه قطب الدين بختيار ونظام الدين أولياء، وهم جميعا من نسل الامام الحسين.
وكيف دمج الجشتي بين الدعوة الصوفية والموسيقى لاثرها في الناس هناك وابتكاره لفن القوالي الرائع الذي ظهر على يد أحد خلفائه (أمير خسرو).
ثم دورها اليوم، ودور التصوف القوي في باكستان وبنغلاديش والطرق المنتشرة المؤثرة وخاصة القادرية وما تفرع منها.
وطريقة الإمام الغزالي الصوفية أو منهجه الصوفي المعرفي المعتمد في بلاد الملايو ضمن ما اصطلح عليه اليوم بالطريقة النهضية التي تجمع عددا من الطرق في أندونيسيا تحت إشراف الشيخ الحبيب لطفي بن يحيى وهو الآن مستشار لرئيس البلاد أيضا.
وكذلك النقشبندية في الصين وشيخها اليوم السيد محمد حبيب العليم وله عمل دعوي كبير في اتصال بفنون الدفاع وعلاقتها بفن قادم من مكة المكرمة مع التجار ثم طوره المسلمون الصينيون في تفاعل مع معابد فنون الدفاع[1].
وكذلك نشاط الرفاعية في تركيا منذ فترة الولي الشريف أمير سلطان في مدينة بورصة إلى اليوم مع جهود عميد سجادة الإمام الرفاعي السيد الدكتور محمد عجان الحديد العالم والشيخ الفاضل.
ودراسة أثر الشاذلية وفروعها في تفاعل مع الطرق الأخرى كالقادرية والرحمانية في بلدان المغرب العربي خاصة زمن الاستعمار وكيف قاوم رجال الله وحفظت زواياهم للمسلمين دينهم وللعرب لغتهم ولأهل البلاد أعراضهم وساهمت في استقلال الأوطان بعد تقديم الشهداء والحروب والمعارك مع مستعمر غاشم مدجج بأسلحة لا يملكونها وطائرات لا يمتلكونها. كما سبق التفصيل والبيان.
ثم دور التجانية في أفريقيا، وما لها من أثر وعدد كبير إذ يقدر أعداد التجانيين بأكثر من مائتي مليون.
وكذلك الطريقة المريدية التي تفرعت بدورها من التجانية والشاذلية، ودور الشيخ الخديم في حفظ الاسلام في بلاد السنغال والدول المجاورة.
هذا كله يحتاج عملا كبيرا وتعاونا ومزجا بين العلوم الانتربولوجية والتاريخ والاستراتيجيا وكذلك توظيف التقنيات الرقمية ليكون هذا “الأطلس الصوفي” قادرا على السفر في العالم بلمسة زر وموصولا بالشبكة العالمية التي غزت البيوت والعقول وهددت مستقبل الكتب الورقية.
2/ تأسيس مركز عالمي لاستراتيجيات التصوف: وهو في اعتقادي أمر لا غنى عنه. حيث يتم فيه الدمج بين الأصول الصوفية وعلومها، والطرق وفروعها، والعلوم الاستراتيجية والاجتماعية وفنونها. لتحليل الواقع بواقعية، وفهم الذات قبل انتظار أن يفهمنا الآخرون. وللنقد المجرد الموضوعي البعيد عن الاستنقاص أو التعصب. ولفتح أبواب التواصل والحوار مع العالم ومع المختلف. أسوة بالأوائل[2].
وللرد العلمي المعرفي والاكاديمي على الشبهات. ولكشف كل من يتلاعب بالتصوف لغايات في نفس شيطانه ويتخذه خدعة أو يتخذ منه مطية أو يتخذ فيه جدرانا تعزله عن بقية الطرق مدعيا أنه أو شيخه “شيخ الوقت والوارث الوحيد لرسول الله والمتصرف في الأكوان والذي ينوب عن الحضرة ولا ينال أحد من أهل الأرض خيرا إلا من تحت قدمه ولا قيمة لشيخ سواه من الاحياء والمنتقلين”. ولست هنا أكتب مجازا بل أعيد ما ردده على مسامعي بعضهم وهم يهتزون اهتزاز المسحور ويترنحون ترنح المخمور.
كما أن العلوم الاستراتيجية ستوفر قاعدة بيانات مهمة، ورؤى استشرافية هامة، نظرا لدقة المرحلة وكثرة التحديات. وسوف يكون ذلك بابا لإخراج التصوف من “خلوة إصلاح النفس” إلى “جلوة إصلاح الناس” كما ذكرت في كتاب يحمل هذا العنوان.
وسيكون من المفيد والضروري فهم المعطيات الجيوستراتيجية الدولية والجيوسياسية العالمية وتعقيداتها ومآلاتها حتى يكون للتصوف -الذي يمثل ثقلا بشريا كبيرا – دور في نشر السلام والاعتدال، وفي الدفاع عن الأمة الإسلامية وعن الإنسانية كأمة آدمية.
إذ أن الصوفي الحق هو رافع لواء الرحمة والمحبة، وهو الذي يحمل في يد قلبه راية النور والخير والرقي في عصر الظلمات والشر والانحطاط.
أما التحديات فهي كثيرة تنهش قلوب وعقول الشباب، من مخدرات إلى إجرام وإلحاد وشذوذ وعبث وعدمية وانبتات وتعصب وتطرف وتكفير، وصولا إلى مافيا الإرهاب الدولي.
وكل هذا لا يمكن مواجهته دون استراتيجيات تنبع من عقل مروحن، ومن معرفة فيها من العرفان ومن ذوق أهل الإحسان.
ويجب النظر إلى الزوايا كمؤسسات يمكنها بالتعاون مع الدول ومع منظمات المجتمع المدني وفعل الكثير لخدمة المجتمع وتوعية الشباب ونشر الثقافة الهادفة والعلوم التي تفيد الإنسان في الرقي بنفسه في جميع المجالات.
ولذلك فلا بد من علوم التنمية البشرية التي نبعت من التصوف.
فالتصوف وزوايا أهل الله كانت جامعات لتعليم فنون القيادة والخطابة والتأثير الإيجابي، ولتنمية المريدين وتعليمهم جميع المعارف، ولإعداد الجيوش أيضا إن اقتضى الأمر ذلك سواء في معارك المعنى أو حروب المبنى ،كما فعل الامامان عبد القادر الجيلاني وأحمد الرفاعي قدس الله سرهما والأقطاب الذين كانوا معهما في إعداد جيل تحرير القدس.
ولا شك أن جيلا تحرير جديد تعده الأقدار اليوم، لموعد قادم لا ريب فيه، ولكن يحتاج مطار تلك الطائرة الربانية عملا لا يتم إلا بأهل الله وأهل التصوف الحق.
وإن من يقرأ قواعد العشق الأربعين للتبريزي التي عكف مع تلميذه الرومي في خلوة لكتابتها سيجد كلاما أرقى من كل ما يردده خبراء التنمية البشرية وفنونها اليوم.
أليس قوله في القاعدة الثانية: “إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس، فاجعل قلبك، لا عقلك، دليلك الرئيسي. واجه، تحدَّ، وتغلب في نهاية المطاف على “النفس” بقلبك.
إن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله.”
أليس هذا هو قمة التنمية البشرية التي لا تقود إلى نجاح أناني يوصل إلى الدنيا، بل إلى نجاح عرفاني يوصل إلى الله.
أوليس قوله في القاعدة السابعة والعشرين: ” يُشبه هذا العالم جبلاً مكسواً بالثلج يردد صدى صوتك. فكل ما تقوله سواء أكان جيداً أم سيئاً، سيعود إليك على نحو ما.
لذلك إذا كان هناك شخص يتحدث بالسوء عنك فإن التحدث عنه بالسوء بالطريقة نفسها يزيد الأمر سوءً. وستجد نفسك حبيس حلقة مُفرغة من طاقة حقودة.
لذلك إنطق وفكر طوال أربعين يوما وليلة بأشياء لطيفة عن ذلك الشخص. إن كل شيء سيصبح مختلفاً في النهاية لأنك سَتصبح مُختلفاً في داخل”.
أليس أشد قوة وتماسكا من كلام خبراء قانون الجذب الذين ينشد إليهم ملايين الشباب عبر العالم ويقرؤون كتبهم بنهم ويحضرون دورات يدفعون من أجلها مبالغ باهضة، في حين لا يحضر أحدهم إلى زاوية ولو منحوه المال.
إنه الواجب الذي ينادي على رجال الحق ليلتحم الفرع بأصله. وإنه باب لما أسميه الروحانية الاستراتيجية: علينا أن نجعل من معارفنا الروحية والإشراقية التي تنتج عن صبر طويل ومكابدات، ان نجعل منها معارف مبسطة ممنهجة نافعة يقبلها الشباب خاصة، فلا طاقة لهم ولا وقت لديهم (من فرط تسارع المعلومات وكثرتها واستلاب مواقع التواصل الاجتماعي) لقراءة الفتوحات المكية مثلا أو فهم أغوارها.
بل إن كلمة النفري العميقة البسيطة “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” أشد أثرا فيهم وفي أدبائهم وشعرائهم وسمر مقاهيهم. ولو لم يكتب النفري الصوفي الكبير في موافقه ومخاطباته وفهوانياته سواها لكفاه.
إنها مسائل لا تحتاج جلسات نقاش مطولة، بل همة عالية لمن شاء أن يخدم ويقدّم ويتقدّم. فالصوفي الحق خادم للمنهج الرباني المحمدي النوراني.
إنه من رجال قال عنهم مولانا جلال الدين في مقدمة المثنوي: “أولو البصائر الربانيون الروحانيون السمائيون العرشيون النوريون، السكوت النظار، الغيب الحضار، الملوك تحت الأطمار، أشراف القبايل، أصحاب الفضايل، أنوار الدلايل”.
وأرى كذلك من الضروري تأسيس اتحاد عالمي فعلي وفعال للتصوف، أو دمج جميع الاتحادات والمنظمات والجمعيات في اتحاد واحد أو رابطة.
فإن لم يكن فوجب حصر تلك المنظمات والجمعيات الصوفية ثم التي يمكن أن تتعاون مع الشأن الصوفي ضمن أطر الثقافة والفكر والبحث العلمي.
وكذلك التنسيق مع الجامعات لتفعيل عمل حيوي متدفق يكسر الجمود ويحطم السلبية ويفتح الآفاق على الصعيد العالمي بل يفتح أبوابا للإعلام والسينما.
فما فعله فيلم الرسالة للمرحوم مصطفى العقاد يوازي عمل جيش من الدعاة في نشر الإسلام، وما اغتياله بعملية ارهابية إلا عقاب له من أعداء الدين وخوف من فيلم جديد كان يجهز له.
ويجب ضمن كل هذا تحديد رؤية اقتصادية واضحة تمكن الطرق الصوفية من التمويل الذاتي دون انتظار دعم من جهة أو أخرى وإن كنا لا نرفض الدعم. ويكون العمل ضمن القانون وما يتيحه والسوق وما يبيحه.
فلو أننا فعلنا تنسيقية صوفية اقتصادية عالمية، لرأينا أثر ذلك. حيث أن عدد رجال الأعمال من اهل التصوف كبير، والزاد البشري كثير، بل هنالك دول كل من فيها من أهل التصوف سواء من أهل السلطة أو العلماء أو الشعب، ومثال ذلك في أندونيسيا ظاهر وفي باكستان جلي.
كما لا ينبغي إهمال الملتقيات وورشات العمل، وتنظيم مؤتمرات علمية، محلية ودولية، اكاديمية وعرفانية وذوقية وثقافية واستراتيجية عن التصوف. كالمؤتمر العالمي باسطنبول، فهذا الأمر واجب وضرورة ملحة.
إن الرياح عاتية العولمة عاتية، وامواج الالحاد كاسحة.
ورمال التصحر الفكري والخواء الروحي زاحفة. ودوامات الشعوذة والدجال مخاتلة.
وضربات التكفير والتفجير تزداد وتيرتها اطرادا وتعيث في الارض فسادا ولا تضمر لاهل التصوف خيرا، رغم اختناقها الآني ومماطلتها الحينية بعد طغوتها في العقد الماضي.
إنه تفعيل وفعل وفاعلية. أثر وتأثر وتأثير. أصل وتأصيل، واستئصال للأمراض الكامنة والظاهرة والمحيطة بحنكة طبيب خبير.
إن الأصل الصوفي سبيكة ذهب، ولكن الواقع يتعامل بعملة أخرى، ولو أننا خرجنا بتلك السبائك دون صرفها وتحويلها، لوجدنا أنفسنا في حال اهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم وأرسلوا أحدهم بورقهم.
على التصوف أن يستيقظ من السبات. ان يغادر الكهف. أن يبهر العالم من جديد.
[1] وهي مناطق زرتها وزرت الصالحين فيها والتقيت مشائخها إلا الصين التي اجتمعت مع ممثل شيخ النقشبندية فيها في أندونيسيا وأعتزم زيارتهم قريبا بعون الله.
[2] فقد ثبت أن الامام الحسن البصري كان يحضر مجالس المسيحيين ولا يجدون منه إلا طيب الكلام وحسن الاصغاء ودقة الملاحظة وسعة الفهم.
ليس التصوف شجرة بلا جذور تعصف بها رياح الوقت. ولا هو جذور بلا أغصان قد قتلتها الأيام. بل هو أصل وفروع. جذر وأغصان. عمق في تراب التاريخ وامتداد في آفاق الحاضر يهفو نحو الآتي.
إنه عالم من الروحانية الآسرة والأدب البديع والشعر الرائع والموسيقى المنسابة: عالم تسري فيه قصائد أبي مدين الغوث والإمام الرواس وابن الفارض. في تناغم مع روائع رابعة وموسيقى القوالي الهندية الجشتية ورقصة الرومي مع شيخه التبريزي رافعا يده في دوران يمثل دوران العالم ودوران كل شيء وسيرورته الحتمية إلى الله.
وهو كذلك عالم من الحكم والمعاني والغوامض والتجليات: فيه من فوهانيات النفري ومن إشراقات السهروردي ومكاشفات ابن عربي وحكم ابن عطاء ولدنيات الخضر يسامر أهل الحضرة بعد نصَب السفر في مجمع بحرَي الوصل وللفصل، حيث يتخذ حوت أرواحهم سبيله في بحر اللطف سربا، فيكسر مركب أنفسهم، ويقتل غلام أهوائهم، ويقيم جدار قلوبهم، ليطيقوا معه صبرا.
عالم من العلم والفقه والتربية والتزكية والسلوك. رسم ملامحه أقطاب من أهل العلم والولاية والعقيدة الصحيحة والفقه النقي من كل أدران التعصب والكراهية.
عالم من الفتوة والإباء والصمدانية التي لا تعزلها رحمانيتها عن جبروتية من فيض الجبار فترى رجالها جبالا أمام الأهواء وأسودا أما الظلم والظالمين يستقبلون الشهادة بابتسامة الحلاج ويقفون أمام الغزاة وقفة الامام الشاذلي أمام جيوش لويس التاسع ويتسلقون حتى حبال المشانق ليشنقوا شانقيهم ويعيشوا اكثر من قاتليهم كما قال المجاهد الكبير عمر المختار.
والتصوف تصوفان: تصوف نفقده كلما ابتعدنا عن أصوله وحدنا عن ثوابته، وكثيرا ما نفعل إن عبرنا عن فعل البعض منا كما يعبر بعض قطر الماء عن المحيط من حيث التماسك والتفاعل.
وتصوف ننشده لعلنا نرى فيه عودة الأمجاد وتجدد القطبية التي لا يخلو منها زمان. ونرى فيها تحقق الوعد وظهور ما ننتظر.
وبين التصوفين تصوف يبحث عن ذاته. تصوف يفقد الكثير كلما اعتلى صهوة معانيه جاهل أو ركب ذروة مبانية أفّاك. ويفقد الكثير بسبب كثرة الشبهات وقلة الردود أو قلة علم أصحابها. وغربة العلماء النيرين والربانيين العارفين وفقر اليد أمام من اغتنت جيوبهم وافتقرت قلوبهم. ويفقد من دمائه كلما كفّر مكفّر او فجّر مفجّر جسده الذي استحوذ عليه مس الشياطين في مقام أو مسجد لأن من فيه من أهل التصوف “القبوريين المشركين” كما أقنعته غواية شيوخ جهنم.
تصوف ينشد خلاص الإنسانية ويعجز أن يخلص نفسه من ادران كثيرة شوهت نقاء صورته وكدّرت صفو مائه.
ولكن في الجهة المضيئة ملامح خير لرجال خير من أهل التصوف الحق الذين لا ينقطعون زمانا ولا مكانا فهم أبدال الوقت ومعادن الحكم وينابيع الرحمة وسرج الهداية.
فتلك حالة الأصل مع فروعه. وذلك حال الفرع مع أصوله. وقد يغلب الحال على المقال. أو يعجز المقال عن تفسير الحال.
ولقد تفرعت عن الأصل الصوفي فروع كثيرة، ضمن دوائر مكانية وزمانية اتصلت بأقطاب واصلين ورجال صالحين ودعاة مخلصين انتقل الكثير منهم في أرض الله سياحة وعبادة ودعوة. ولم تمنعهم مشاق السفر في تلك الأوقات من الوصول إلى شبه القارة الهندية وبلاد الملايو والصين، ولا من التوغل في العمق الافريقي. والمحقق في أنساب هؤلاء الرجال يجدهم من سلالة النبي ﷺ وبقية آل البيت عليهم السلام، أو من نسل الصحابة رضي الله عنهم.
وبما أنهم أكثر من أن نتمكن في كتاب من حصرهم، فإن المشروع الذي نطمح في إنجازه بالتعاون مع أهل التصوف ومشايخه عبر العالم، هو “أطلس الطرق الصوفية”، ليكون معجما مدققا مفصلا عن التحرك الجغرافي والتاريخي للفروع الصوفية ورجالها. بمعنى كيف ساهم التصوف في نشر الإسلام عبر العالم وكيف كانت حركة الطرق ورجالها. ومثال ذلك القادرية والجشتية في شبه القارة الهندية، ودور معين الدين الجشتي وقطب الدين بختيار كاكي ونظام الدين أولياء (وكلهم من نسل الامام الحسين) ودمج الجشتي بين الدعوة الصوفية والموسيقى لاثرها في الناس هناك وابتكاره لفن القوالي الرائع. ، وطريقة الإمام الغزالي الصوفية أو منهجه المعتمد في بلاد الملايو ضمن ما اصطلح عليه اليوم بالطريقة النهضية التي تجمع عددا من الطرق. وكذلك النقشبندية في الصين وشيخها اليوم السيد محمد حبيب العليم وله عمل دعوي كبير في اتصال بفنون الدفاع وعلاقتها بفن قادم من مكة المكرمة مع التجار ثم طوره المسلمون الصينيون في تفاعل مع معابد فنون الدفاع. وهي مناطق زرتها وزرت الصالحين فيها والتقيت مشائخها إلا الصين التي اجتمعت مع ممثل شيخ النقشبندية فيها في أندونيسيا وأعتزم زيارتهم قريبا بعون الله. وكذلك نشاط الرفاعية في تركيا منذ فترة الولي الشريف أمير سلطان في مدينة بورصة إلى اليوم مع جهود عميد سجادة الإمام الرفاعي السيد الدكتور محمد عجان الحديد العالم والشيخ الفاضل.
ودراسة أثر الشاذلية وفروعها في تفاعل مع الطرق الأخرى كالقادرية والرحمانية في بلدان المغرب العربي خاصة زمن الاستعمار وكيف قاوم رجال الأصل والفرع وحفظت زواياهم للمسلمين دينهم وللعرب لغتهم ولأهل البلاد أعراضهم وساهمت في استقلال الأوطان بعد تقديم الشهداء والحروب والمعارك مع مستعمر غاشم مدجج بأسلحة لا يملكونها وطائرات لا يمتلكونها. مثل الشيخ عمر المختار السنوسي المقاوم والشهيد، والأمير عبد القادر الجزائري والشيخ بوعمامة.
وكذلك التجانية في أفريقيا، وما لها من أثر وعدد كبير إذ يقدر أعداد التجانيين بأكثر من مائتي مليون. وكذلك الطريقة المريدية التي تفرعت بدورها من التجانية والشاذلية ودور الشيخ الخديم في حفظ الاسلام في بلاد السنغال والدول المجاورة. هذا كله يحتاج عملا كبيرا وتعاونا ومزجا بين العلوم الانتربولوجية والتاريخ والاستراتيجيا وكذلك توظيف التقنيات الرقمية ليكون هذا “الأطلس الصوفي” قادرا على السفر في العالم بلمسة زر وموصولا بالشبكة العالمية التي غزت البيوت والعقول وهددت مستقبل الكتب الورقية.
كما أن تأسيس مركز عالمي “لاستراتيجيات التصوف” امر لا غنى عنه. حيث يتم فيه الدمج بين الأصول الصوفية وعلومها، والطرق وفروعها، والعلوم الاستراتيجية والاجتماعية وفنونها. لتحليل الواقع بواقعية، وفهم الذات قبل انتظار أن يفهمنا الآخرون. وللنقد المجرد الموضوعي البعيد عن الاستنقاص أو التعصب. ولفتح أبواب التواصل والحوار مع العالم ومع المختلف. أسوة بالأوائل. فقد ثبت أن الامام الحسن البصري كان يحضر مجالس المسيحيين ولا يجدون منه إلا طيب الكلام وحسن الاصغاء ودقة الملاحظة وسعة الفهم. وللرد العلمي المعرفي والاكاديمي على الشبهات. ولكشف كل من يتلاعب بالتصوف لغايات في نفس شيطانه ويتخذه خدعة أو يتخذ منه مطية أو يتخذ فيه جدرانا تعزله عن بقية الطرق مدعيا أنه أو شيخه “شيخ الوقت والوارث الوحيد لرسول الله والمتصرف في الأكوان والذي ينوب عن الحضرة ولا ينال أحد من أهل الأرض خيرا إلا من تحت قدمه ولا قيمة لشيخ سواه من الاحياء والمنتقلين”. ولست هنا أكتب مجازا بل أعيد ما ردده على مسامعي بعضهم وهم يهتزون اهتزاز المسحور ويترنحون ترنح المخمور.
كما أن العلوم الاستراتيجية ستوفر قاعدة بيانات مهمة، ورؤى استشرافية هامة، نظرا لدقة المرحلة وكثرة التحديات. وسوف يكون ذلك بابا لإخراج التصوف من “خلوة إصلاح النفس” إلى “جلوة إصلاح الناس” كما ذكرت في كتاب يحمل هذا العنوان.
وسيكون من المفيد والضروري فهم المعطيات الجيوستراتيجية الدولية والجيوسياسية العالمية وتعقيداتها ومآلاتها حتى يكون للتصوف الذي يمثل ثقلا بشريا كبيرا دورا في نشر السلام والاعتدال وفي الدفاع عن الأمة الإنسانية والأمة الإسلامية. إذ أن الصوفي الحق هو رافع لواء الرحمة والمحبة وهو الذي يحمل في يد قلبه راية النور والخير والرقي في عصر الظلمات والشر والانحطاط.
أما التحديات فهي كثيرة تنهش قلوب وعقول الشباب، من مخدرات إلى إجرام وإلحاد وشذوذ وعبث وعدمية وانبتات وتعصب وتطرف وتكفير وصولا إلى مافيا الإرهاب الدولي. وكل هذا لا يمكن مواجهته دون استراتيجيات تنبع من عقل مروحن ومن معرفة فيها من العرفان ومن ذوق أهل الإحسان.
ويجب النظر إلى الزوايا كمؤسسات يمكنها بالتعاون مع الدول ومع منظمات المجتمع المدني فعل الكثير لخدمة المجتمع وتوعية الشباب ونشر الثقافة الهادفة والعلوم التي تفيد الإنسان في الرقي بنفسه في جميع المجالات. ولذلك فلا بد من علوم التنمية البشرية التي نبعت من التصوف. فالتصوف وزوايا أهل الله كانت جامعات لتعليم فنون القيادة والخطابة والتأثير الإيجابي ولتنمية المريدين وتعليمهم جميع المعارف وإعداد الجيوش أيضا إن اقتضى الأمر ذلك سواء في معارك المعنى أو حروب المبنى كما فعل الامامان عبد القادر الجيلاني وأحمد الرفاعي قدس الله سرهما في إعداد جيل تحرير القدس، ولا شك أن جيلا تحرير جديد تعده الأقدار اليوم لموعد قادم لا ريب فيه ولكن يحتاج مطار تلك الطائرة الربانية عملا لا يتم إلا بأهل الله وأهل التصوف الحق.
وإن من يقرأ قواعد العشق الأربعين للتبريزي التي عكف مع تلميذه الرومي في خلوة لكتابتها سيجد كلاما أرقى من كل ما يردده خبراء التنمية البشرية وفنونها اليوم.
أليس قوله في القاعدة الثانية: إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس، فاجعل قلبك، لا عقلك، دليلك الرئيسي. واجه، تحدَّ، وتغلب في نهاية المطاف على “النفس” بقلبك. إن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله.
هو قمة التنمية البشرية التي لا تقود إلى نجاح أناني يوصل إلى الدنيا، بل إلى نجاح عرفاني يوصل إلى الله.
أوليس قوله في القاعدة السابعة والعشرين: ” يُشبه هذا العالم جبلاً مكسواً بالثلج يردد صدى صوتك. فكل ما تقوله سواء أكان جيداً أم سيئاً، سيعود إليك على نحو ما. لذلك إذا كان هناك شخص يتحدث بالسوء عنك فإن التحدث عنه بالسوء بالطريقة نفسها يزيد الأمر سوءً. وستجد نفسك حبيس حلقة مُفرغة من طاقة حقودة. لذلك إنطق وفكر طوال أربعين يوما وليلة بأشياء لطيفة عن ذلك الشخص. إن كل شيء سيصبح مختلفاً في النهاية لأنك سَتصبح مُختلفاً في داخل” أشد قوة وتماسكا من كلام خبراء قانون الجذب الذين ينشد إليهم ملايين الشباب عبر العالم ويقرؤون كتبهم بنهم ويحضرون في دورات يدفعون من أجلها مبالغ باهضة في حين لا يحضر أحدهم إلى زاوية ولو منحوه المال.
إنه الواجب الذي ينادي على رجال الحق ليلتحم الفرع بأصله وإنه باب لما أسميه الروحانية الاستراتيجية: علينا أن نجعل من معارفنا الروحية والإشراقية التي تنتج عن صبر طويل ومكابدات، ان نجعل منها معارف مبسطة ممنهجة نافعة يقبلها الشباب خاصة، فلا طاقة لهم ولا وقت لديهم (من فرط تسارع المعلومات وكثرتها واستلاب مواقع التواصل الاجتماعي) لقراءة الفتوحات المكية مثلا أو فهم أغوارها. بل إن كلمة النفري العميقة البسيطة “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” أشد أثرا فيهم وفي أدبائهم وشعرائهم وسمر مقاهيهم. ولو لم يكتب النفري الصوفي الكبير في موافقه ومخاطباته وفوهانيته سواها لكفاه.
إنها مسائل لا تحتاج جلسات نقاش مطولة، بل همة عالية لمن شاء أن يخدم. فالصوفي الحق خادم للمنهج الرباني المحمدي النوراني. إنه من رجال قال عنهم مولانا جلال الدين في مقدمة المثنوي: ““أولو البصائر الربانيون الروحانيون السمائيون العرشيون النوريون، السكوت النظار، الغيب الحضار، الملوك تحت الأطمار، أشراف القبايل، أصحاب الفضايل، أنوار الدلايل”.
وأرى كذلك من الضروري تأسيس اتحاد عالمي فعلي وفعال للتصوف، أو دمج جميع الاتحادات والمنظمات والجمعيات في اتحاد واحد أو رابطة، فإن لم يكن فوجب حصر تلك المنظمات والجمعيات الصوفية ثم التي يمكن أن تتعاون مع الشأن الصوفي ضمن أطر الثقافة والفكر والبحث العلمي وكذلك التنسيق مع الجامعات لتفعيل عمل حيوي متدفق يكسر الجمود ويحطم السلبية ويفتح الآفاق على الصعيد العالمي بل يفتح أبوابا للإعلام والسينما. فما فعله فيلم الرسالة للمرحوم مصطفى العقاد يوازي عمل جيش من الدعاة في نشر الإسلام، وما اغتياله بعملية ارهابية إلا عقاب له من أعداء الدين وخوف من فيلم جديد كان يجهز له.
ويجب ضمن كل هذا تحديد رؤية اقتصادية واضحة تمكن الطرق الصوفية من التمويل الذاتي دون انتظار دعم من جهة أو أخرى وإن كنا لا نرفض الدعم. ويكون العمل ضمن القانون وما يتيحه والسوق وما يبيحه. فلو اننا فعلنا تنسيقية صوفية اقتصادية عالمية رأينا أثر ذلك حيث أن عدد رجال الأعمال من اهل التصوف كبير والزاد البشري كثير بل هنالك دول كل من فيها من أهل التصوف سواء من أهل السلطة أو العلماء أو الشعب، ومثال ذلك في أندونيسيا ظاهر وفي باكستان جلي.
كما لا ينبغي إهمال الملتقيات وورشات العمل، تنظيم مؤتمرات علمية، محلية ودولية، اكاديمية وعرفانية وذوقية وثقافية واستراتيجية عن التصوف كمؤتمر العالمي باسطنبول واجب وضرورة ملحة. وان الرياح عاتية العولمة عاتية، وامواج الالحاد كاسحة ورمال التصحر الفكري والخواء الروحي زاحفة. ودوامات الشعوذة والدجال مخاتلة. وضربات التكفير والتفجير تزداد وتيرتها اطرادا وتعيث في الارض فسادا ولا تضمر لاهل التصوف رغم اختناقها الآني ومماطلتها الحينية بعد طغوتها في العقد الماضي.
إنه تفعيل وفعل وفاعلية. أثر وتأثر وتأثير. أصل وتأصيل، واستئصال للأمراض الكامنة والظاهرة والمحيطة بحنكة طبيب خبير.
إن الأصل الصوفي سبيكة ذهب، ولكن الواقع يتعامل بعملة أخرى، ولو أننا خرجنا بتلك السبائك دون صرفها وتحويلها لوجدنا انفسها في حال اهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم وأرسلوا أحدهم بورقهم. على التصوف ان يغادر الكهف. أن يستيقظ من السبات. أن يبهر العالم من جديد.
# الإحسان، الاستراتيجيا، التصوف، التصوف الاستراتيجي، العرفان، المفكر مازن الشريف