الحب منبع الإبداع..والملهم الأزلي (من كتاب تأملات إنسان، مطبوع)

3 دقائق للقراءة

من بين كل كنوز الجنة الكثيرة التي عُرضت عليه، اختار جدّنا واحدا فقط..وحمله معه في حقيبة قلبه وهو يغادر الجنة..ولأنه كان كنزا عظيما..فقد اختزن منه في دمه..روحه..رئتيه….ووضع أجمل جوهرة في عينيه…ثم حين رآها تشع أبعد مما يحتمل بصره..اقتسمها مع رفيقة دربه وأنيسة وحدته..الغالية حواء..ومنذ تلك اللحظة أصبحت جنته..وسرى بينها تيار لم ينقطع لحظة..كان نهرا عظيما لم يستطع شيطان تغيير مجراه..نهر الحب..
على الأرض..تقاسم آدم وحبيبته كنزهما مع الزمن ومع الأمكنة..وفي صندوق الذاكرة أودعا أجمل ذكرياتهما في الجنة..وأروع لحظاتهما في الأرض..
بعد قليل…سيختصم الورثة ويقتل الأخ أخاه..لينفجر بركان من الدم الأسود المقيت..اسمه الكره..وليسعى لتسميم ماء النهر إلى آخر لحظات الدنيا…
قبل برهة..كان لكم أن تروا آدم وحيدا في الأرض..بعد فراق وحيدته..هنالك اشتعلت نار لم تبصر جهنم ولا الشمس التي تنظر بحنان عن قرب نارا مثلها..لكن القمر أبدى تفهمه…ونجوم الليل شهدت..وكان الليل مذكيا كريما..واتفقت الأرواح على تسمية تلك النار بالاسم الذي يذبحني الآن..”الشوق”..
على ضوء القمر..والنجوم شواهد..والليل داج والصمت مخيم..سرى في الدم ماء بارد محرق..فضم آدم كفيه ونفخ فيهما ليستشعر الدفء..ثم سرت نار زرقاء ودبت في شرايينه..كان ذلك أول موعد لآدم.. مع العشق…
وحين تكاثرت الليالي ومضت الأيام بخطوته الوحيدة..تناسلت النار مع الماء..وتكاثر الأولاد والأحفاد:شغف…دنف..وجد..
هيام.. غرام.. ولهٌ..
ولع..صبابة..حنين..هوى.. جوى..ميل..حلم.. سهد…رغبة..اضطرام..

على الضفة الأخرى كانت حواء تعانق ذات النار ولكن بشكل أشد تأججا..وكم كان الشوق ضاريا والعشق ساريا…والحنين مبكيا مشجيا مدميا..
كل هذا..والكنز يشع ويبتسم. ليس آدم وحده من سينجب مع حواء الحضارة, هو أيضا سيفعل..ولكن الأهم والأخطر..أن آدم لن يستطيع من دونه إنجاب شيء..الحب جوهر روحه..يحب ربه..جنته..أرضه…السماء فوقه.. زخات المطر..وجه حبيبته..القمر الهادئ…الزهرة الحالمة..وطفله يحبو بكل حبور..
ورغم كل جيوش الكره التي عبأها إبليس..ذلك الذي أراد تحطيم الجوهرة..فإن الحب ظل سيدا..ويظل أولاده وأحفاده يكبرون أمام عينيه ويملئون الدنيا شوقا وعشقا ونورا عجيبا..

لنعد قليلا…
في ليالي وحدته..كئيبا ناظرا إلى السماء حيث جنة غادرها لخطأ وقدر..حزينا متأملا وجه الأرض عله يرى وجه حبيبته..هل يمكن لهذه الصورة أن تخفي ملامح طفل آخر أصبح مع الأيام سيدا مهيبا ونهرا عجيبا؟؟؟
هل لك أن تبصر معي أول خط كتبه آدم حين تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بعد أن علمه الأسماء كلها؟؟
هل كانت مناجاة لربه؟؟
تدوينا لقصته في الجنة؟؟
خواطر وأفكار؟؟
رسالة عشق إلى محبوبته التي خلقت منه ومن أجله؟؟
قصيدا عن أمجاد السماء وأوجاع الأرض؟؟
قصيدة يسطرها الحب على مرأى من الشوق ومسمع؟؟

هل منكم من جرب مثله – ومثلي – ليالي الفراق والوحدة حيث لا مهرب إلا إلى الورقة والقلم؟؟؟ {إن لم تجد قلما وورقة فلا بأس، سوف تتعلم بيسر أن قلمك قلبك، وأن أعظم الأوراق صفحته – درس علِمه الشنفرى وفهمه ابن الملوح جيدا، وحين هام الصعاليك والمجانين في الصحراء، أصبح الذئب شاعرا وتذأّب البشر، لا تنظر إلى حال الرمال، لقد أهلكها العشق وأتلفها الشوق، ولم تأت تلك الغمامة}.
هل منكم شرب جرعة أو جرعتين من الشوق الموجع فأنبتت مهجته دمعة وقصيدة؟؟
هل لكم أن تبصروا آدم في دمائكم يجلس على هضبة قرب نهر تنكسر على مياهه الهادئة صور النجوم ويرتسم وجه القمر وديعا بديعا، وهو يتغنى بقصيدة عن حبه الأزلي…
لحواء أن تعترف..لم يكن آدم أكثر منها حبا..ولا عشقا وشوقا..لكن لها أن تخفي أغنياتها عن النهر..وسوف تراها تهمس للقمر في خجل أرق كلمات سمعها..فيتساقط قطعا من البلور على شرفات قلبها…

لحواء أن تشهد على دمعها. مطرا كان أو جمرا..
أن تعلن عن حبها..لقد كان فيضا لغيم كريم..ولفحا لصهد تأوه منه الجحيم..
هل تعلمون لم تتمايل الزهور في الحقول..لأن النسيم داعبها..كلا..بل لأنه همس في أذنها قصيدة آدم التي همس بها لحواء حين احتضنها أول مرة بعد طول فراق..فتمايلت وهي تسمعه كلمات أرق من الندى بكثير – الندى يتلعثم وهو يحاول تخيل تلك الرقة – فحفظت كل الورود تلك الكلمات، واحتفظ النسيم بحقوق نشر شعر آدم على وريقات الزهور…

الرقة – بلاد الشام
‏03‏/02‏/2009‏ 03:17 م

مقالات ذات صلة

صمت وكلام
حين تقرر الصمت، لكن قلبك يرفض أن يصمت.حديث القلب حديث قلق متوجس، مشحون بالعاطفة.أما حديث العقل فرصين، وفيه الكثير مما يمكن أن يترجم بلغة...
3 دقائق للقراءة
بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء
من كتابي: تأملات وجودية بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء ولقد اتفقت الانسانية بجميع حضاراتها، وعلى مدى تاريخها، واختلاف أديانها، أن الانسان روح وجسد، معنى...
3 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
عز (من كتاب فن السعادة)
ما هو العز؟وما معنى “عزيز القوم”؟وماذا تعني الكلمة النبوية العظيمة: ارحموا عزيز قوم ذل. والعز لغة ضد الذل. العز سؤدد ومجد.ورجل عزيز هو رجل...
2 دقائق للقراءة
خيوط متشابكة
كلما ظننتَ أن الحرب انتهت، ستجد أنها تجددت بشكل لا تتوقعه. العالم البشري عالم صراع وحروب، تاريخه يشهد. وما رسمه التاريخ ليس سوى تطبيق...
< 1 دقيقة للقراءة
مستقبل الفلسفة…بين سموم الواقع…وسم سقراط
هل للفلسفة مستقبل في هذا العالم “الغثائي” الذي يمضي في نسق سريع نحو أقصى درجات ذكاء الآلة وأقصى درجات الغباء البشري، في تفاعل بينهما،...
2 دقائق للقراءة
عصا موسى: بين عين النقص وعين الكمال
كان موسى يعرف العصا، ولم يكن يعرفها. لقد صحبته عشر سنين يرعى الأغنام فيهش بها على غنمه، ولم يكن يدري سرّها. وكان يصحب نفسه...
4 دقائق للقراءة
إبليس..ذلك العالم الذليل (من كتاب تأملات قرآنية)
مما لا شك فيه أن إبليس من العارفين الكبار، بل هو أعرف الجن حتى بلغ مراتب الملائكة، وهو الذي شهِد الملأ الأعلى وكلّم الحضرة...
2 دقائق للقراءة
في الكاتب والكتاب
الكتاب كالصّاحب، عليك أن تحسن اختياره، فهو سيصحبك في دروب الفكر والتأمل، أو سيودي بك إلى المهالك، وكما أنّه ليس أضر من الصاحب السوء،...
2 دقائق للقراءة
تأملات في الدال والمدلول وروح اللغة
كل شيء معقد حين تجهله. وكل شيء بسيط حين تعرفه. وأنت تجلس بجانب صيني يمازح صديقه، سيكون كلامه معقدا، وكذلك كلامك حين يسمعه، ولو...
2 دقائق للقراءة