4 دقائق للقراءة
لحمد لله الواحد الاحد المعبود، المذكور المشكور المحمود، صاحب العطاء والثناء والجود، الذي أنعم على الوجود بمولد سيد الوجود وإمام كل موجود.
والصلاة والسلام على المجتبى الممدوح، إمام عيسى وموسى إبراهيم وإسماعيل ونوح، الأول في برازخ الروح، تاج الهداية والعناية ومعراج الفتوح، الذي ذكره كالمسك يفوح، ووجهه كالبدر يلوح.
صل اللهم وسلم وبارك عليه وعلى اله وصحبه وسلم.
يقول الحق جل وعلا في الآية الثامنة والخمسين من سورة يونس: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا”، وهذا الأمر الإلهي العام بالفرح بفضل الله ورحمته، على اتساع مفهوم الفضل ومعنى الرحمة، يكون أشد تأكيدا كلما كان الفضل أكبر والرحمة أعظم، فما أعظم فضل من الله ورحمة له بالناس كافة وبالمؤمنين عامة.
يقول الله سبحانه في الآية الرابعة والستين بعد المائة من سورة آل عمران: “لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ”، فهذا المن من أعظم فضل الله على المؤمنين وعلى الناس أجمعين: محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته المباركة التي أخرج بها الناس من الظلمات إلى النور إلا من جحد وأبى.
ويقول عز وجل في الآية السابعة بعد المائة من سورة الأنبياء: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”، فرسول الله عليه الصلاة والسلام ليس فقط رحمة للمؤمنين والمسلمين أو البشر كافة بل للعالمين بما يحوي ذلك من شساعة المعنى وامتداد الافق وشمول الرحمة المحمدية لكل خلق الله.
أليس في الآيتين بيان جلي على أن رسول الله هو أعظم فضل من الله ورحمة للناس كافة والمؤمنين خاصة، به كانت الهداية وبه عرفوا الله وبه استقاموا على الصراط وبه يدخلون الجنة.
وإن كان هذا الفضل وتلك الرحمة بالمقدار العظيم الذي يعجز دونه الوصف في ذات رسول الله وبعثته وهديه، أفلا يكون الامر ألزم وأوكد بالفرح به وهو أكبر الفضل وأعظم الرحمة؟
وإن بوابة دخول تلك الرحمة العظمى ووصول ذلك الفضل العظيم إلى هذا العالم في تلك الفترة من الجاهلية الظلماء، كان ميلاده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ ان ميلاده لم يكن حدثا عاديا، بل كان تجليا للرحمة العظمى والفضل الأكبر، يوم عظيم وساعة عظيمة ولحظة من أعظم لحظات تاريخ الأرض بل هي أعظمها بعد لحظة الخلق نفسه، إنه ميلاد سيد الوجود.
فهل هنالك مانع منطقي او ذوقي او شرعي في أن نقول ان الواجب علينا أن نفرح كما امرنا الله برحمته وفضله، وأن رسول الله قمة ذلك الفضل وسنام تلك الرحمة، فوجب الفرح به، وأن ميلاده باب كل ذلك الفضل وتلك الرحمة فوجب أن نفرح ونبتهج بمولده.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين لأنه يوم وُلد فيه، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يظهرون السرور بذلك، فيفرح به ولا ينهاهم عنه، بل جاءه العباس يوم مولده فقال إني قلت فيك مدحا في يوم مولدك فسُر رسول الله بذلك وهو يسمعه يقول:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ
ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلادَ لا بَشَرٌ أَنْتَ وَلا مُضْغَةٌ وَلا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتَكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ فِي الضِّيَاءِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ
ثم درج التابعون على ذلك، وأضافوا إليه من صنوف البهجة والانشاد واظهار السرور، وتطور ذلك بحكم تطور العصور واختلف بحكم اختلاف الأمصار والعادات حتى أصبح المولد النبوي مناسبة مباركة لها طعامها المميز حسب البلدان والمدن والفترات، ولها احتفالاتها وفرحها وقصائدها واناشيدها، وكل ذلك من باب الفرح برحمة الله وفضله، ومن باب الحب لرسول الله، فهل لو نظرنا إليه وهو يطلع على أمته تفرح بمولده يُسر سروره بكلمات عمه العباس أم يغضب ويقول لهم: هذه بدعة؟
ثم إن علماء الأمة كلهم، إلا شراذم متأخرين، كانوا يحضرون ويساهمون ويكتبون الأشعار والخطب في ربيع الأنور وفي المولد النبوي، وكان في تونس مثلا يوم المولد يوما مهيبا يمشي فيه الباي (حاكم تونس) حافيا إلى جامع الزيتونة المعمور حيث يجتمع العلماء والمشايخ من أهل الفقه والشريعة والعقيدة والعلم الراسخ وياتي الناس في جميل الملبس ويأخذ الأطفال الهدايا وتعم البهجة، تحقيقيا لذلك البيت الشعري الجميل: قم زيّن الدنيا بنور محمد.
فالمولد النبوي فرح واجب من الله سبحانه ضمن حد الرحمة والفضل فما بالك بحب الله لنبيه وحبه لمن يحب نبيه ويحتفي بمولده، ثم هو سنة نبوية مؤكدة إذ صام رسول الله احتفاءا بمولده ومدحه الصحابة وفرحوا بالمولد وتتالى ذلك في الأمة وتطور تطورا لا يعني الابتداع بل هي سنة الله في الناس أن تتطور وتتغير وتنمو الأمور نمو الشجر، أو نقول ان علم الفقه والأصول والعقيدة بدعة لما شهده من تطورات وتفصيلات تتصل كلها بالأصل ولكن تنمو نمو إشكالات الحياة ونمو المعرفة الدينية والعلمية.
إن الذي ينكر على المحتفلين بمولد النبوي في قلبه غلظة وفي إيمان خلل، إن كان مؤمنا، فهل يُعقل أن يُبغض مؤمن صحيح الإيمان الفرح بمولد نبي الهدى والقرآن؟ وهل يصح أن يكون ذو قلب سليم من يكره الأمة كلها ويبدّعها لأنها ابتهجت بمولد نبيها الهادي؟
أليس مولد رسول الله من أعظم أفراح الأمة؟ بل أليس من أعظام أفراح الأرض التي حوته؟
هل نطالب الأم العاقر إن أنجبت بمبرر شرعي لفرحها بمولودها؟ فكيف بالذين لولاه لبقوا في عقم الجاهلية يعبدون الحجارة؟
هل يُغضبنا فرح الأرض بالماء حين يأتيها من رحمة الله وفضله بعد همود “وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)”(الحج)، فتلك البهجة بالماء الذي أحيا الأرض بعد موتها وإقفارها ومحلها وقحلها فضل رباني ورحمة إلهية تفاعلت مع الأرض بالنبات البهيج والابتهاج والمسرة والحياة، فلا يلوم ذلك إلا مريض عقل وقلب، وشان أرض القلوب التي أمحلت وأجدبت حتى أحياها الله بماء حياة الرحمة المحمدية يحق ويجب لها وعليها الفرح والابتهاج وأن ترى فيها كل سرور وكل أمر بهيج زهرا ووردا وندّا ومسكا وشعرا وإنشادا عذبا وطعاما طيبا وملبسا جميلا واحتفالا بهيجا.
إن رسول الله حياتنا، أحيا الله به قلوبنا: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (24)” (الأنفال)، وهذه الحياة طيبة فيها مسرة، لا نكد وعبوس وكراهية وتزمّت وتطرف فيها، فذلك الذوق وتلك التزكية التي بها نرى الفرح بمولده بديهة قلبيا حتى إن لم نجد مبررا شرعيا، فكيف والأمر ثابت شرعا.
جعل الله لكل قلب من الفرح بمولد رسول الله نصيبا، وأسعد بذلك الارواح التي منحها نور الحب، وجمعنا به في جنة الخلد، ونحن به سعداء وبمولده أبد الدهر محتفلون.
22 نوفمبر 2017 / 01:11