2 دقائق للقراءة
مشهد القطار بلا سائق الذي أثار الرأي العام في تونس يوم أمس، وأثار الفزع والرعب في قلوب من كانوا فيه ومن كانوا يشاهدونه وهو ينطلق بجنون ثور إسباني دون سائق يقوده أو قائد يوقفه، والذي لم يسبق للتونسيين أن عايشوه، مشهد عجيب فعلا، غريب ومؤلم، لكن الأعجب والأغرب والأشد ألما وإيلاما أنه يمثل انعكاسا لحالة البلاد التونسية اليوم، التي انفلت قطارها ومضى بمن فيه في سرعة غلاء الاسعار وانهيار القيم وسقوط المعايير وتردي الإدارة والتمزق المجتمعي والفساد الممنهج بين ناعق بشذوذ العقيدة وناعق بشذوذ الجسد.
قطار مضى بسرعة والناس فيه يصرخون ويتشهدون وينتظرون الموت في كل لحظة، وكانت الكارثة قاب قوسين، وبقي سبب ذلك لغزا مهما تم تنميق وتزويق الرواية الرسمية عن السائق الذي ترك القطار وحده، لأن في القطار نظما تمنعه من بلوغ تلك السرعة ومن الانطلاق بمفرده، وفي الأجمة ما فيها ولعل الأيام تكشف ذلك.
ولعل القطار يشتكي مما أصابه، لأنه لم يكن يملك زمامه، وكان ثمة ما عطل مكابحه الآلية، ولعله قد سمع بما أصاب إخوته: قطار وضعوا له جدارا فوق السكة، وقطار آخر لم يجد السكة أصلا بعد أن اقتلعها من الأرض جرذان الليل، وسواها من الأحوال والأهوال التي لم يذق مرها إلا قطارات البلاد التونسية المحمية.
قطار لم يوقفه إلا قطع الكهرباء عنه، قطع طاقته وفصل شرايينه وإزهاق روحه قبل ان يزهق أرواح من فيه.
وهو في الحقيقة قطار يحكي عن بلاد بلا قيادة، ومن غير رؤية، بلاد لا تكفيها صرختي في أغنية أنا مواطن وحاير أنتظر منكم جواب، لأن المواطن عرف الجواب وأدرك كنه الخطاب، ولم يعد ينتظر من القائمين على حكم تونس وسياسييها شيئا، هو ينتظر من يوقف القطار ويوقف الرعب والوجع والتعب اليومي، ينتظر من يقطع الكهرباء عن الخيانة والتآمر والعمالة وسوء التدبير والتكالب على الكرسي، والاستماتة في الدفاع عن المصالح والتجارة بدماء الشهداء والتخلي عنهم وعن أهليهم، والعمى الاستراتيجي، والغرور إزاء كل نصيحة والازدراء لكل ناصح صادق.
قطار رغم كل ذلك أحاط به اللطف من كل جانب، فنجى الذين فيه، ولم يدهس في طريقه رجلا ولا امراة ولا طفلا، ولكن حتى ستار اللطف الذي اكتنف ركاب القطار برحمة من الله فلم تقع مأساة دموية وإن كانت وقعت مأساة في عمق المعنى، حتى ذلك اللطف يريد الأوغاد نزعه: هذا بحرق مقام ولي عاشق لله، وذاك بحرق القيم والاخلاق والدعوة للشذوذ والالحاد وكل ما يستنزل سخط رب العباد.
هذا قطاركم يا أهل إفريقيّة، حاكما ومحكوما، فهل تعتبرون، قبل الكوارث القادمة.
سوسة
27/07/2018