بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء

3 دقائق للقراءة

من كتابي: تأملات وجودية

بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء

ولقد اتفقت الانسانية بجميع حضاراتها، وعلى مدى تاريخها، واختلاف أديانها، أن الانسان روح وجسد، معنى ومبنى، نفس ومادة.
وعليه فتقسيم العالم الى قسم روحي وقسم مادي أمر متفق عليه لدى الفلاسفة والمناطقة، وأصحاب الشرائع والديانات.
وإن الموازنة القائمة بين الجانب الروحي والجانب المادي موازنة دقيقة، تنضبط تحت ميزان اعتدال يعطي لكل جانب حقه، ولكل مجال قدره.
وإن كانت الروحانية غالبة من حيث المعنى والشعور، فإن الماديه غالبة أيضا من حيث المبنى والظهور.
ولكن هذا الميزان حين يختل، وهذا التوزن حين يعتل، يؤدي الى ناتجين، ويفضي الى مظهرين متنافرين، كلاهما فاسد.

فعندما تنغلق المادية على نفسها، وتكفر بما دونها، ويغتر أصحابها ويجحدون، يصيبها العمى الذي يجعل الوجود كتلة مادية لا روح فيها، ويجعل الانسان مجردا من قيمه الروحية وحسه الديني، مسلوب الإرادة، منتزع القيمة، لا تخالجه نفحة، ولا يعتمل فيه وازع من ضمير، ملوث الذوق مسمم الأفكار.
بل ويتحول العلم إلى انحياز للمادة على حساب الروح، فينكر ما لا يطاله مشرط تشريحه، ومختبر تجربته.
فيفتري أدعياء العلم المادي الأعمى فيما يعلمون أنه الحق، ويزيفون ويكذبون، ويوهمون ضعاف العقول بأن العلم أفضى إلى نفي الروح وإثبات عدمية الوجود الإلهي، حتى يكون الإلحاد أجلى مظاهر العمى المادي، وأكثر وجوهه صلفا واستكبارا.
بل يسلخ الإنسان من فطرته، وتطمس روحانيته، وتكبل روحه، وينخدع عقله، وتهيّج نفسه ليكون كائنا استهلاكيا، وذاتا وضيعة تقبل كل مظاهر الانحراف، ونفسا يسهل انقيادها واستعبادها، وتسود الغريزة، وتسيطر الأهواء، ويستأثر الفساد، ويستحكم الباطل، ويستشري العبث.
ذلك ان المتلاعبين بالمادية العمياء لا يريدون أرواحا حرة، ونفوسا قوية، وعقولا واعية،  بل  بيادق يتلاعبون بها وفق مصالحهم.
وها نحن نشهد ما جنته المادية العمياء على البشرية، ونرى هلام كائنات مستهلكة لكل ما يروجون لها من افكار، أو يبيعونها من سلع، ويتحكم شرذمة في مأكلها ومشربها وملبسها، وعاداتها المستحدثة، ووعيها وتصوراتها.
بل إننا نرى مجتمعات تمسخ بالكامل، ونشاهد مسوخايخنقون الوجدان الانساني النقي، ناشرين زيغهم وطغيانهم ومرض قلوبهم.

وعلى الضفه الأخرى يظهر قوم يدعون في الروح، بروحانية جوفاء لا وزن ولا قيمة لها، ولا جدوى منها.
وبين من يقع في حبائل السحرة والمشعوذين والدجاجلة، ومن يسقط في براثن أدعياء التنسك والكشف، أو المدعين للقدرات الروحية العلاجية، ومعرفة المستقبل،  يتوه الإنسان وتختلط عليه الأمور، ويصبح دمية يحركها لاعب متمكن، يتقن فن الخديعة، ويبرع في فنون الوهم، يضيع وقته ويفني معه سنين عمره دون طائل.
بل ويتمكن بعضهم من السيطرة الكاملة على ضحيته، ويصبغ وهمه المدنس، بدعوى المقدس، ويلقيه في الظلامية بادعاء النورانية، سالبا ماله مفسدا حاله، حتى يبلغ إهلاك نفسه، وقتل الناس بغير حق.

إن الدين الحق، الذي نزل به كبير الملائكة من حضره الحق، دين جامع بين المادة والروح بحكمة واتزان وتناغم.
روحانية مستنيرة، يتنور بها العقل، وتزكو بها النفس، وتسمو بها الأخلاق، ويصبح بها الإنسان مؤمنا موقنا عارفا، موصولا محبوبا محبا، مستيقنا أن الروح أقدم، وأنها حلت في الجسد لأجَل، ولأجْل إتمام مهمة مكتوبة عليها، مسطر أمرها، مقضي حكمها.
وأن بعد ذلك انعتاق من كثافة المادة، ورجوع الى شفافية برزخية، يتجدد بعدها الالتحام بطينة الأجسام، لدخول أبد الآباد، حيث نعيم مقيم، عند عليم كريم رحيم.
ومادية مبصرة تدمج جمال المعنى في متانة المبنى، حيث شواهد الألوهية، ومشاهد الربوبية، في كون متقن، ووجود بديع، وكثافة لطيفة…

*الصورة لينكولا تيسلا، أحد رموز العصر الحديث، الجامع بين العلم المادي والروحانية العالية، والذي سرقت المادية العمياء اختراعاته وفجرت مختبره وقتلته.

مقالات ذات صلة

صمت وكلام
حين تقرر الصمت، لكن قلبك يرفض أن يصمت.حديث القلب حديث قلق متوجس، مشحون بالعاطفة.أما حديث العقل فرصين، وفيه الكثير مما يمكن أن يترجم بلغة...
3 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
عز (من كتاب فن السعادة)
ما هو العز؟وما معنى “عزيز القوم”؟وماذا تعني الكلمة النبوية العظيمة: ارحموا عزيز قوم ذل. والعز لغة ضد الذل. العز سؤدد ومجد.ورجل عزيز هو رجل...
2 دقائق للقراءة
خيوط متشابكة
كلما ظننتَ أن الحرب انتهت، ستجد أنها تجددت بشكل لا تتوقعه. العالم البشري عالم صراع وحروب، تاريخه يشهد. وما رسمه التاريخ ليس سوى تطبيق...
< 1 دقيقة للقراءة
مستقبل الفلسفة…بين سموم الواقع…وسم سقراط
هل للفلسفة مستقبل في هذا العالم “الغثائي” الذي يمضي في نسق سريع نحو أقصى درجات ذكاء الآلة وأقصى درجات الغباء البشري، في تفاعل بينهما،...
2 دقائق للقراءة
عصا موسى: بين عين النقص وعين الكمال
كان موسى يعرف العصا، ولم يكن يعرفها. لقد صحبته عشر سنين يرعى الأغنام فيهش بها على غنمه، ولم يكن يدري سرّها. وكان يصحب نفسه...
4 دقائق للقراءة
إبليس..ذلك العالم الذليل (من كتاب تأملات قرآنية)
مما لا شك فيه أن إبليس من العارفين الكبار، بل هو أعرف الجن حتى بلغ مراتب الملائكة، وهو الذي شهِد الملأ الأعلى وكلّم الحضرة...
2 دقائق للقراءة
في الكاتب والكتاب
الكتاب كالصّاحب، عليك أن تحسن اختياره، فهو سيصحبك في دروب الفكر والتأمل، أو سيودي بك إلى المهالك، وكما أنّه ليس أضر من الصاحب السوء،...
2 دقائق للقراءة
تأملات في الدال والمدلول وروح اللغة
كل شيء معقد حين تجهله. وكل شيء بسيط حين تعرفه. وأنت تجلس بجانب صيني يمازح صديقه، سيكون كلامه معقدا، وكذلك كلامك حين يسمعه، ولو...
2 دقائق للقراءة
تأملات في الكون والتكوين
كل شيء بسيط حين تنظر في ظاهره، وكل شيء معقد حين تتوغل في أعماقه، فترى كم أن التركيب دقيق والنسيج رقيق والصغير شاسع والمحدود...
< 1 دقيقة للقراءة