تأملات فلسفية: اللوح الثالث: في المفهوم والقضية

3 دقائق للقراءة

لكل علم جملة من المفاهيم ينبني عليها، والعالم من حولنا ماديا وفكريا وحسيا ومعنويا هو جملة من المفاهيم تعمل اللغة عبر اللفظ المنطوق، والذهن عبر اللفظ الذهني، على بلورته في كلمات محددة معينة، وصور واضحة بينة، لكن ما أكثر المفاهيم التي يعجز الذهن عن التعبير عنها بمنطوق محدد وتظل سجينة التشبيه أو التمثل أو مجرد الإحساس، وما أكثر المفاهيم التي تعجز أذهان كثيرة عن إدراكها ضمن اللغة المتبناة من الذهن نفسه، وتظل تلك المفاهيم سجينة المعاجم، ولربـما تقاس ثقافة فرد ما بعدد المفاهيم التي يعرفها، ولا يوجد ذهن بشري واحد يمكنه حصرها كلها، ولكن فراغ الذهن من المفاهيم وقصوره وانحصاره في مفاهيم مجترة أو سطحية يعتبر كارثة فكرية حقيقية.
والمفهوم نسق لغوي يحمل معنى منطقيا يكون في لفظ مفرد فإذا ارتبط مفهومان شكّل ذلك قضية منطقية ما، كقولك “أنا جميل”، فالأنا مفهوم للذاتية، والجمال مفهوم للحسن والذوق يختلف حسب الذائقة ولكن يشترك في قواسم محددة، وقولك “أنا جميل” قضية منطقية قد تكون صائبة أو خاطئة، ويكون الكنه الفعلي للرابط المفهومي هو المحدد للصحة والخطأ، بمعنى أن يكون في أناك جمال حقيقي، وكذلك قولك مدينتي جميلة، فلكي يكون قضية حقيقية صادقة لابد أن نجد أدلة الجمال في تلك المدينة، أو يكون الأمر خارجا عن المنطق القيمي للمفاهيم والقضايا على حد سواء، وحين ننظر في هذا الأمر فإن كثيرا من المفاهيم تُستخدم في قضايا خاطئة تماما ويكون اللعب بالمفهوم من أجل تفريغ القضية أو تزييفها أو تحويلها عن معناها الحقيقي أمرا بالغ الخطورة نجده عبر التاريخ وفي نظرية تدوين التاريخ (حسب ذاتية المدون التي تختلف عن مدون لذات الحدث التاريخي ضمن جانب مضاد لقضية الأول، وهنا صعوبة المنهج التاريخي والتحليل الإستقرائي) وخاصة في عصرنا هذا، فيكون وطن قوم وطنا لآخرين اغتصبوه، فحين يقول مغتصب “هذا وطني” أو “هذه أرضي” يكون المفهوم قد تعرض لانزياح قصدي عن معناه الحقيقي، وتكون القضية قد اتخذت بعدا غير بعدها الفعلي الحقيقي. في حين يصبح صاحب القضية الحقيقية أي صاحب الأرض والوطن الفعلي عرضة للتهميش المفهومي والتفريغ لقضيته وهو يقول “هذا وطني” أو “هذه أرضي”…إنه قتل للمفهوم وتدمير للقضية.
وكذلك يصبح معنى الإنسانية، الحرية، الثقافة، الفكر، السلام، وغير ذلك، يصبح محكوما بآليات تحول مفهومه عن سياقه الأصلي وتزج به في قضايا مشوهة، فلك أن تتخيل مفهوما مبتذلا مثل انعدام القيم والانفساخ مرتبطا بالحرية، أو بالثقافة، كما لك أن تتصور معنى الانهزام والانبطاح والذل وحتى بيع الذمة مرتبطا بالسلام، في حين يكون مفهوم الارهاب مثلا مفهوما مطاطا يرتبط بقضايا يسعى من يصنعها إلى مزيد التشويه والتزييف، فيصبح عمل إنساني راقي مثل مساعدة إنسان لإنسان أو جماعة إنسانية لجماعة إنسانية أخرى مرتبطا بمفهوم الإرهاب، في حين يصبح عمل إرهابي عنصري مثل قتل إنسان (طفل ومدني أعزل أو إنسان يحمل دواء لإنسان آخر) مرتبطا بمفهوم الدفاع عن النفس ومبادئ الإنسانية وقيم السلام.
إن هذه الكلمات تحمل في طياتها مسائل على غاية الخطورة ضمن فلسفة المنطق ومنطق الفلسفة، وكل ذلك في سياق استخدام المنطق الفلسفي والفلسفة المنطقية لمنطقة كل ما هو غير منطقي وإلباسه تاج الحكمة المقدسة وصبغه بفلسفات ظاهرها العمق وباطنها العقم، في حين يكون ما خرج عن ذلك غير منطقي وغير حكيم، فمفهوم الحرية، والذي يرتبط بمفاهيم أخرى مثل الأنا أو الفكرة، كقولك “أنا حر”، أو “فكرة حرة”، يلبس لباس اللاقيمة، وكل قيمة مضادة، ويصبح القيّم الجاد الجيد مجرد قيد على هذه الحرية وذلك الأنا وتلك الفكرة، وهو عمل على المنطق كشفه وعلى الفلسفة واجب تجاه العالم لتبيّن له الحكمة وتحببه فيها وتصحح المفاهيم وتنتصر لحقيقة القضايا، أو تصبح محض تهويم يتجاوز حدود المنطق إلى سدم اللاجدوى والانفلات المريض والعجز المخزي.

مقالات ذات صلة

صمت وكلام
حين تقرر الصمت، لكن قلبك يرفض أن يصمت.حديث القلب حديث قلق متوجس، مشحون بالعاطفة.أما حديث العقل فرصين، وفيه الكثير مما يمكن أن يترجم بلغة...
3 دقائق للقراءة
بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء
من كتابي: تأملات وجودية بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء ولقد اتفقت الانسانية بجميع حضاراتها، وعلى مدى تاريخها، واختلاف أديانها، أن الانسان روح وجسد، معنى...
3 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
عز (من كتاب فن السعادة)
ما هو العز؟وما معنى “عزيز القوم”؟وماذا تعني الكلمة النبوية العظيمة: ارحموا عزيز قوم ذل. والعز لغة ضد الذل. العز سؤدد ومجد.ورجل عزيز هو رجل...
2 دقائق للقراءة
خيوط متشابكة
كلما ظننتَ أن الحرب انتهت، ستجد أنها تجددت بشكل لا تتوقعه. العالم البشري عالم صراع وحروب، تاريخه يشهد. وما رسمه التاريخ ليس سوى تطبيق...
< 1 دقيقة للقراءة
مستقبل الفلسفة…بين سموم الواقع…وسم سقراط
هل للفلسفة مستقبل في هذا العالم “الغثائي” الذي يمضي في نسق سريع نحو أقصى درجات ذكاء الآلة وأقصى درجات الغباء البشري، في تفاعل بينهما،...
2 دقائق للقراءة
عصا موسى: بين عين النقص وعين الكمال
كان موسى يعرف العصا، ولم يكن يعرفها. لقد صحبته عشر سنين يرعى الأغنام فيهش بها على غنمه، ولم يكن يدري سرّها. وكان يصحب نفسه...
4 دقائق للقراءة
إبليس..ذلك العالم الذليل (من كتاب تأملات قرآنية)
مما لا شك فيه أن إبليس من العارفين الكبار، بل هو أعرف الجن حتى بلغ مراتب الملائكة، وهو الذي شهِد الملأ الأعلى وكلّم الحضرة...
2 دقائق للقراءة
في الكاتب والكتاب
الكتاب كالصّاحب، عليك أن تحسن اختياره، فهو سيصحبك في دروب الفكر والتأمل، أو سيودي بك إلى المهالك، وكما أنّه ليس أضر من الصاحب السوء،...
2 دقائق للقراءة
تأملات في الدال والمدلول وروح اللغة
كل شيء معقد حين تجهله. وكل شيء بسيط حين تعرفه. وأنت تجلس بجانب صيني يمازح صديقه، سيكون كلامه معقدا، وكذلك كلامك حين يسمعه، ولو...
2 دقائق للقراءة