2 دقائق للقراءة
كل شيء معقد حين تجهله. وكل شيء بسيط حين تعرفه.
وأنت تجلس بجانب صيني يمازح صديقه، سيكون كلامه معقدا، وكذلك كلامك حين يسمعه، ولو تعلمت لغته أو تعلم لغتك لكان الامر على غاية البساطة.
لكنها في الحقيقة بساطة خادعة، لأن اللغة معقدة حين تسال عن سر تكونها وطبيعة نشأتها وكيف ارتبطت الدوال بالمدلولات وكيف تقننت نحوا وصرفا وإعرابا وكيف تشكلت ألفاظها وولدت حروفها وتكونت مفرداتها ووجدت صيغها وبني منطقها وتنوعت لهجاتها ونغماتها عبر الزمان وعبر المكان.
تخيل مدلولا ما: الماء مثلا أو زهرة، وانظر لذلك المدلول تحيط به الدوال من مختلف اللغات، لتلك الزهرة تحلق حولها ملايين النحلات اللغوية، لذلك الماء تطفو فوقه أعداد لا تحصى من زوارق الكلمات ومراكب الالفاظ بأشرعة حروفها القليلة واحتمالات تركيبها التي لا يمكن حصرها. تخيل ملايين الكائنات من بينها البشر، تنطق كلمة تعبر عن اسم ذلك الماء او تلك الزهرة، تصور أصواتهم ولهجاتهم وكلماتهم كلٌّ حسب لغته وحسب مستوى نطقه وكلامه: من اللغات البدائية لدى القبائل في الادغال، الى لغات الكائنات العليا في أرجاء العوالم والاكوان، أليس عجيبا أن تتزاحم أسراب من طيور الدلالات حول مدلول واحد، والاعجب أن لا يضيق بها مجاله. فكيف والمدلولات لا تحصى أيضا .
وتصور كيف وُلدت الدوال ومتى: هل كانت بعد المدلول لوصفه وتعيينه، أم معه فعبّرت حروفها عن طبيعته.
وهل هي دلالات معنى أم مبنى، فإن عوالم المشاعر والمعاني لها كون خاص كما لعوالم التكوين والتركيب والمادة.
وتصور فوق كل هذا دالا واحدا على ذلك المدلول، دالا أولا نشأ معه، وكان حقيقته الأولى، اسمه الاصلي، توأمه، كيف كان يكون، وهل له أثر عليه، كأثر طلاسم السحرة وتعويذاتهم على الاشياء في سجف الحكايات التي قد تحمل بعض الحقيقة، وككلام الارواح في الخيالات التي قد تكون واقعا في عالمها الخاص، بل لعل تلك الاسماء الاولى دوال لها سر عظيم وأثر كبير، بحيث تملك روح المدلول بمجرد معرفة الدال، وتمتلك سلطان المسمّى حين تعرف الاسم. لغة لها نفاذ على الأشياء، لغة تمتلك أرواح مسمياتها.
ولعلّها لغة كان فيها الدال قبل المدلول، ونشأ المدلول بالدال نفسه.
فهل تكون روح اللغة سابقة للموجودات والمعاني؟
وهل ثمّة لغة يكون تحقق القول فيها في عالم المعنى تحققا مباشرا في عالم التكوين.