4 دقائق للقراءة
ملاحظة: هذا المقال كتب بلون أسود، نعتذر عن البقع السوداء في ثوب البياض المتفائل.
الصفر، ذلك الرقم المنحجب بين الأرقام، والذي ظل دهرا يختفي عن أعين الأعداد حتى اكتشفه العرب، أولئك الذين كانوا يتباهون بالعدد والعدة، ولكن أجيالا منهم ربضت تحته، وصارت مساحات ما تحت الصفر حكرا على شعوب العرب في مجالات شتى، وحتى يتخلص الصفر من عقدته العربية، وينزع العرب عنهم اللعنة الصفرية، يبقى الرقم مبجلا مدللا دالا على منطقة دقيقة حرجة فاصلة بين الوجود والعدم، وبين الفاعلية والإلغاء الفعلي الكامل. بالرغم من إن العدد نفسه حمل في لغة الغربيين الذين لا يعرفون مساحات ما تحت الصفر غلا في الحرارة، وربما قال عالم للأخلاق ومبادئها أنهم يعرفونها في مجال الخلق أيضا، حمل اسم السيد صفر، فكان Le Chiffre اعترافا للصفر بمكانته وربما ألمح بعضهم أنه اعتراف لمن اكتشفه من العرب أو من العباقرة الذين ألحقهم الإسلام بالعرب، مبحث آخر عن عروبة التطور الحضاري الإسلامي لأن الكثير جدا من الجهابذة لم يكونوا عربا بل كانوا فقط مسلمين، وتلك الـ”فقط” لعمري كافية ضافية شافية.
ما تحت الصفر السياسي بلغت الأمة قمته منذ مقتل الإمام الحسين، وإن كان علاماته أخذت في التمظهر منذ مقتل الأئمة عمر وعثمان ثم الفتنة ومقتل الإمام علي ثم ابنه الحسن رضي الله عنهم جميعا. منذ تلك الحقبة كان للصفر أن يتباهى أنه حلم صعب الإدراك قل أن تجود الأيام بمناطق ما فوقه، كأن يعاجله عمر بن عبد العزيز أو هارون الرشيد أو نور الدين زنكي، لكنه سرعان ما يتحول إلى أمنية تحت سنابك خيل المتناحرين وفي فجور يزيد وطغيان الحجاج ودموية السفاح وسادية الحكام والملوك والامراء والرؤساء والبغاة الطغاة والفجرة، وفي زنازين التعذيب وترف المترفين وظلم الغاصبين وأجساد الجائعين التي عجزت عن الأنين. لكن القاع الصفصاف حين بلغ بالأمة وهنها إن غادرت قصر الحمراء باك أمير من أمرائها كالنساء على ملك لم يستطع المحافظة عليه كالرجال كما قالت له أمه وذاك لسان حال أمته. ومن محاكم التفتيش والعروق التي تنزف حتى الموت ببطء، إلى الصليبيين الذين أكلوا لحم الأطفال في المعرة وقتلوا بلا رحمة، ثم يكون ما يكون حتى تحتل فلسطين وحتى تستعمر الأمة كلها. خاف الصفر كثيرا من حركات التحرير، وازداد خوفه من كل عقل نير، فهو إذ تباهى بنزوله بالفكر الديني إلى قيعان ما تحت الصفر مع معاول أنصار ابن عبد الوهاب تهدم أثار النبي الأكرم وتذبّح أمته، فقد خشي من محمد علي باشا. وهو إذ يعلم أن ما تحت الصفر الاجتماعي والثقافي والعسكري والتربوي والأخلاقي والقيمي والسلطوي والديمقراطي قد فتح جميع بواباته ليرزح العالم العربي تحت كلكله، فإنه ظل متيقظا فطنا.
الثورة كانت دائما تحاول تحطيم كبرياء الصفر، وكل أعمدته التي بناها وابتناها وتبناها أصحاب ما فوق الصفر، ذلك العلو الوهمي لأصحاب السمو الملكي والانقلابي والديكتاتوري والإقطاعي، ولئن كان المسحوقون في فرنسا رسموا مخططا لما فوق الصفر علميا واقتصاديا وسياسيا منذ زمن وارتحلوا بعلم وعمل وتنوير وثورة، فإن المسحوقين في تونس ومصر راودهم الحلم ولم يكتمل الرحيل. حين نقول أن الثورة حركة انفجارية للأمام ووثبة وانفجار للكوامن، فأننا نطمح بذلك إن نرى الأعداد الحية، الواحد والخمسة والسبعون والألف، في النمو الاقتصادي والتنمية وفي السلم الحضاري وفي الوعي والثقافة والديمقراطية وعدد العاملين والسعداء والمفكرين والرائعين والعشاق والأطفال والأشجار الحبلى بفواكه الحب والمشاريع والأحلام المتحققة والأفكار النيرة. لكن لخيبة الأرقام جميعا، فغن الـ”إلا” سيطرت، إلاّ خمسين في الرقي، إلاّ مليار في النمو، إلاّ لا نهائي في الحب والانضباط والالتزام. الصفر، ذلك العدد الماثل بين الموت واللاموت، قد يكون النقطة الوحيدة التي يمكن من خلالها البداية، ولأننا بعيدون جدا عنه في أكثر من صعيد فإن رحلة الوصول إلى الصفر رحلة شاقة جدا. مشهد: امرأة في عمر السابعة والعشرين، حبلى، تأخذ أخا لها عمر خمس سنوات، يغرق وتنجو في عملية احتراق متجدد لشعب لم يصدق أنه قام بثورة. مشهد: فوضى عارمة حرائق، نزول اقتصادي وسقوط من معايير دولية في الاقتصاد مثل دافوس وفي التعليم وغير ذلك. مشهد: ملابس بيضاء وقلوب سوداء تحرق وتخرب وتهتف “الله اكبر” وهي تهدم مقام ولي من آل بيت النبوة أو تهاجم منطقة امن أو مسجدا لأن الناس فيه أشاعرة كفار ومالكية هالكون وزيتونيون مشركون وصوفيون قبوريون، والصفر يعجب من طول اللحى وقصر النظر. مشهد: عنف إعلامي، عنف سياسي، عنف إيديولوجي، عنف مدرسي، عنف جامعي، عنف كروي، عنف وهابي، عنف عشائري، عنف نقابي، عنف في المستشفيات، عنف امني، عنف شعبوي، عنف شوارع، عنف لفظي، عنف فوضوي. مشهد: تتقافز الاقرقام كلها وتتفاقم في السلم السلبي، من استهلاك الخمر والزطلة وعدد المجرمين وتكدس النفايات ومقدار البذاءة وسب الجلالة ونمو التطرف الديني وهطول أمطار الحقد الكروي حتى غمرت المساجد والإعلام وصولا للمجلس التأسيسي لكأن البلاد ملعب كرة قدم كبير. طفرة من الأرقام الميتة وما تحت الصفرية ترشح بالعنف اللفظي مع كم من الميوعات المتساقط هنا وهناك وتمظهرات لجلهلئيل وزيفئيل وكذبئيل في أكثر من محفل وأكثر من مناسبة.
كل هذه المشاهد القاتمة تجعل رحيلي الفكري نحو الصفر يائسا بائسان رغم أني لست من أنصار اليأس وان كنت من أصدقاء البؤس سنين عددا.
كلمة اخيرة: علينا إن نغادر مناطق ما تحت الصفر، كوطن، كشعب، كأمة، كعقلاء، كبشر، كطاقات، مما سيجعلنا قادرين على عبور المنطقة السلبية وملامسة بدايات الكون الايجابي. ولكن كيف السبيل وألف يد في الداخل والخارج تعمل جاهدة منذ قرون كي تبقينا نرزح بعظامنا المنسحقة تحت صخور الصفر المتراكمة.