عزيزي القارئ

4 دقائق للقراءة

عزيزي القارئ: لنفترض أنك مع أولادك الذين تقر بهم عينك ويفرح بهم قلبك في حديقة غناء تسر الناظرين. وحدث أمر رهيب – لا قدّر الله- : انغرزت شوكة في اصبع ولدك الصغير وصرخ : بابا..بابا.
أفلا ينخلع قلبك وتمضي اليه مسرعا تضمه وتسأله: عيني…بابا…ماذا بك يا روح ابيك.
ولن يهدا قلبك حتى تنزع تلك للشوكة من اصبعه الطرية وتضمه وتشمه وكانك تسترد الروح.
ولعلك تلوم نفسك وتقول: ليتني ما اتيت بك إلى هذا الحقل المشؤوم. وتضع خدك على خده تسترضيه. وتمسح دموعه بيدك المشفقة. وتغمره بحنانك. ولو كانت امه معكم لكان الجزع اكبر ولاتهز قلبك اكثر. انها فلذات الاكباد. كل عمرك فيه. ولدت بولادته. ورأيت نفسك تترعرع معه. ولا ترضى فيه وخز شوكة. والويل لو نزلت قطرة دم من قدمه الصغيرة بسبب تلك الشوكة الدقيقة الضئيلة. سيكون وجع روح لا يحتمل.
إن رؤية الوجع في عيني “كبدك” وسماع صرخته يزلزلان روحك. بكلمة واحدة: يا أبي.
الا أخبرك عن رجل خير منك، وهو يقينا أحن منك قلبا وأشفق جنانا، وأكثر حبا لولده من حبك لولدك..
سمع تلك الصرخة مرات ومرات من فلذات اكباده: قتلوني يا ابي.. الظمأ يا ابي…وا ابتاه. ومن اولاد اخيه: عماه…عماه. ومن اشقائه: اصابوني يا سيدي…ادركني يا اخي…قطعوا يدي يا اخي…
رأى الرضيع بين يديه تغمره الدماء وتنغرز السهام في حنجرته، وليست شوكة.
رأى ولده الاكبر تقطعه السيوف وهو اشبهةالناس بجده خلقة وخلقا. وأمه وعماته وأخواته ينظرن.
رأى شقيقه مقطوع الكفين. رأى اصحابه يجندلون واحدا تلو آخر. وزفهم واحدا تلو آخر إلى عرس الشهداء. وكلما خرج منهم واحد ودعه وبكاه. وكلما قُتل أتاه فوضع خده على خده. وأغمض عينيه وقال: رحمك الله ولا خير في الحياة بعدك.
كان احد ابناء أخيه طفلا لكنه ابى إلا ان يقاتل ذودا عنه. ولما قتلوه ضمه فتدلت رجلاه.
سمع صرخاته وراى جراحهم، وكلما انهكتهم السهام ووقعوا قال لهم: قوموا يرحمكم الله هذه رسائل القوم اليكم.
لم يقتلوه لانهم قتلهم او ظلمهم. بل صلى بهم ودعاهم الى الحق وسألهم فيما تقتلونني. وليس فيكم ابن بنت نبي غيري.
لو كان جده بوذا لبكيناه لاجل الإنسانية. لو كان من الهنود الحمر لاحسسنا وجعه لأجل اخوة آدم. لكنه ابن بنت نبينا.
نسيت ان اقول لك انهم قتلوه ايضا وانتخبوا اربعين من الخيل تعافس جسده الطاهر. ولعبوا برأسه وحملوه على رمح. وقطع سارق خاتمه اصبعه. وطعنوه حتى لم يعد من مكان. بعد ان قتلوا كل اهله واصحابه الا عليلا بفرشه. وترك بنات رسول الله للسبي. وهو من اتى بهم يتبع أثر الموت الى مكان حدثه عنه ابوه وجده: ان امتي ستقتلك.
وان هنالك من نكت وجهه بقضيب. وان له اختا نظرته طريحا فقالت: اللهم تقبل منا هذا القربان.
كل هذه تفاصيل لا قيمة لها.
لنرجع الى طفلك حفظه الله: لا ترضى فيه شوكة. فماذا يكون شعورك لو علمت ان شوكة ستنغرز في اصبعه الصغير ولن تكون معه.
فكيف كان احساس نبيك وقد علم يقينا بمقتل ولده الذي كان يحبه ويقول: الحسين مني وانا من حسين، احب الله من احب حسينا.
قد يقول لك جهبذ ما: فتنة مضت لماذا تفكر فيها. الفتنة نائمة لعن الله من ايقظها.
لقد مضى اكثر من الف عام على هذا.
عزيزي القارئ.
ان كنت مسلما فاعلم يقينا انه لا يكتمل ايمانك حتى يكون رسول الله احب اليك من نفسك واهله احب اليك من اهلك. وهذا حديث رسولك لا كلامي. فكيف لا تؤلمك شوكة في اصبع ولدك ولا يؤلم ما اصاب اولاد رسول الله وعترته.
وهذا الحب الواجب لهم لا يكتمل دون الالم لمصابهم.
والحب لم يترك لاختيار بل هو امر الله ورسوله ان كنت تمتثل. وبرهان الايمان ان كنت تعقل. وواجب القلب ان كنت تحس.
وهذا الحزن الملازم للحب فرض عين عليك وليس فرض كفاية يسقط عنك بحزن اخته عليه او الجيل الذي عاصره. انه امر يخص كل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة. ولن أحدثك عن حال قوم يقولون اليوم قول سابقيهم من قبل: الحسين قُتل بسيف جده. ولا عن قول احدهم منذ حين قريب: لو شهدت مشهده لقتلته بيدي دفاعا عن خليفة المسلمين الشرعي وعن دين الله من الفتنة. لا كلام عندي لهم فالكلمة في شأنهم سيمنحها الله لمالك خازن النار بعد ان يقول عزرائيل فيهم كلمته.
أما ان كنت تتبع دينا آخر، فأحيلك الى قول غاندي عن ذلك الامام العظيم. واقوال كثيرين سواه من اهل القلوب النقية. انها كلمة الانسانية وهي تقف في صف الحق والصدق امام الظلم والطغيان والافتراء.
اعتذر عزيزي القارئ ان نغصت عليك ليلك بهذياني.
إنما أنا لا يغادرني المشهد سواء بكيت او تجمّلت بالصبر. او قمت في منبر خطيبا. او كنت في خلوة من الناس.
أشهد الله اني افتدي الحسين وال الحسين بنفسي وولدي واهلي اجمعين. ولن يزول حزني عليه من قلبي حتى ألاقي ربي.
فمن وجد في قلبه من هذا غضاضة وفي مهجته اذى. فقد أصيب وإن لم يشعر. ومن لم تبكه هذه الكلمات فقد جفت من قلبه ينابيع الرحمة. ومن وعى فقد رعى وبارك الله له فيما سعى.


بجوار مولانا معين الدين الجشتي الحسيني العاشق لجده الحسين.
■05■01■2020■23:51
●الصورة عند ضريح جدي الامام الحسين عليه السلام في كربلاء.

# ، ،

مقالات ذات صلة

في شهود البيت العتيق
وأنت بجوار الكعبة المشرفة، تشهد المشهد العظيم، ترى بعينك الطائفين، وترى بقلبك الأولين، وتنظر بروحك إلى وجوه النبيين، من آدم الأول، بعد أن تاب...
3 دقائق للقراءة
عن الحق والباطل
كل فضيلة تقع بين رذيلتين.الكرم بين البخل والتبذير.والشجاعة بين الجبن والتهور.وكل حق يقع بين باطلين: باطل يحجبه، وباطل يسعى لتزييفه. هكذا حدثتني الروح، وهكذا...
< 1 دقيقة للقراءة
في مقام الوالدين
عظم الله قدر الأم، وأبان عن عظيم شرفها في كتابه، وأوصى الإنسان بوالديه ووصّاه ببرهما، فقال عز من قائل: ﴿وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰ⁠لِدَیۡهِ حُسۡنࣰاۖ﴾ [العنكبوت...
2 دقائق للقراءة
وظيفة الاستغفار
وظيفة الاستغفارمن الوظائف الخاصة في الطريقة الخضرية العلية.مع صدق الرجاء وإخلاص النية في الدعاء، والتوجه القلبي الكلي إلى الله، والتوسل بمن للوسيلة ارتضاه.لها بفضل...
2 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
لقاء على بساط المحبة
على بساط المحبة والأنس بالله، كان لقائي بالشيخ خالد بن تونس شيخ الطريقة العلاوية، وقد كان لقاء منفوحا بحب الله ورسوله، محاطا بسر أهل...
3 دقائق للقراءة
عن الطريقة الخضرية
قد يظن البعض ممن لم يطلع على الرسائل ، ولم يفهم المسائل، أن الطريقة الخضرية بدع من القول مما افترى على الأمس اليوم، وبدعة...
2 دقائق للقراءة
صم عاشوراء ولكن
كل عام أكتب عن عاشوراء، ويغضب الكثيرون.حسنا، لن أقول لك لا تصم يوم عاشوراء، لكن إن كنت ستصومه فلا تفعل ذلك ابتهاجا بنجاة موسى...
3 دقائق للقراءة
خطبة بين الروح والقلب
الحمد الله مبدي ما بدا، وهادي من هدى، الذي لم يخلق الخلق سدى.والصلاة والسلام على نبي الهدى، ونور المدى.من عز بربه فساد،  اتباعه رشَد...
< 1 دقيقة للقراءة
عن القرآن الكريم
ليس القرآن فقط مصحفا من ورق، عليه كلمات مطبوعة، تطال نسخه أيدي الآثمين.فيقرؤه قارؤهم والقرآن يلعنه، حتى يقتل خير الناس اغتيالا في المسجد وهو...
2 دقائق للقراءة