4 دقائق للقراءة
كان موسى يعرف العصا، ولم يكن يعرفها.
لقد صحبته عشر سنين يرعى الأغنام فيهش بها على غنمه، ولم يكن يدري سرّها.
وكان يصحب نفسه حياته كلها، ولم يكن يدري سرّه.
فلما أن ألقاها ورآها حية تسعى، فرّ موسى منها، وفرّ من نفسه أيضا، فرّ من تجلي السر، وأدرك أنه لم يكن يعرف عصاه، ولا كان يعرف نفسه.
وكذا الإنسان يحجب الله عنه سر حقيقته الروحية والنفسية النورانية فلا يراه كاملا ما دام حيّا إلا الكمّل من خلق الله، إذ لو رآه كاملا لفرّت روحه من جسده ولتاقت نفسه للموت. وتلك طبيعة النفس اللوامة التي حين تسيطر تزهّد الانسان في الدنيا وترغّبه في الموت للقاء الله تعالى.
ولكن عموم البشر لا طاقة لهم بأشواق الروح النورانية والنفس الرحمانية.
بل يُفتح لهم من ذلك روزنة يتجلى عليهم فيها الحق بسر الحق.
فمن زكّاه تزكّى، ومن هداه اهتدى.
فذلك فضل الله وذلك نوره وتلك حياة الحياة.
أما المحروم فلا يرى من جلال تلك النفس الرحمانية شيئا، بل تتقمصه البشرية بنقصها وتطغى عليه النفس الأمارة بنزغها وتتخاطفه الشياطين تؤزّه أزا وتذيقه ذلا يحسبه عزّا.
حتى ينزع الله منه تلك النفس الرحمانية ونور الروح النورانية، فهو ميت ولئن كان يعيش، فذلك موت الحياة: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) – (الأنعام)
عين النقص وعين الكمال
للإنسان عينان، وللعينين معان: فعين ترى الكمال نقصا، وعين ترى الكمال كمالا.
*عين النقص: لقد نظر موسى لعصاه بعين النقص زمنا، إذ كان ينقصه معرفة السر، وهو نقص لا تثريب فيه عليه:
“وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ (18) – (طه)
وكم من ناظر لخلق الله بعين النقص الجاحدة رغم ما مكن الله له من النظر: فمن رأوا الإبل بعين النقص سخروا من دعوة الله لهم لينظروا إليها كيف خلقت، والله دعاهم للنظر بعين الكمال لحقيقة الجمال.
وكذا أهل العلم المادي يرون دقائق الكون والانسان والأمور التي تبهر العقول ولكن يعين النقص التي لا توصلهم للايمان بالله الواحد، إلا قليلا منهم.
وعين النقص أعين: عين جاحدة كافرة، وعين مادية عاجزة، وعين آدمية قاصرة.
*عين الكمال: هي العين التي تستجلي السر وتنفذ إليه، ويكشف الله لها حقائق الأشياء ودقائق ما كان مخفيا فيها، ولله في كل شيء آية وسر، وإن أصغر الأشياء تحوي أكوانا في دواخلها وآيات لا يحصيها عقل.
فذلك مقام موسى حين ألقى عصاه التي لم يكن يرى حقيقتها حين نظر إليها بعين النقص الآدمية أو عين العادة التي حصرتها في التوكؤ عليها الهش على الغنم والمآرب الأخرى ثم إذا هي حية تسعى: “قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19)فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20) (طه)
*لقاء عين النقص بعين الكمال: لابد لعين النقص أن تلتقي عين الكمال، وأن ترى من خلالها، أو تتحول من عين نقص إلى عين كمال، فعين موسى ارتقت، وأعين الجاحدين رأت ومسها الهلع والهلاك ولم ينفعها ما رأت، والخلق كلهم يوم القيامة سيرون بعين اليقين التي هي من عين الكمال. فناظر ناضر، وناظر باسر.
إن عين الكمال عين حيّة، في حين أن عين النقص عين جامدة، فالعصا بعين النقص خشبة لا حياة فيها، وهي بعين الكمال حيّة ساعية.
ولكن اللقاء بين عين النقص وعين الكمال يكون صادما لعين النقص، فتفر منها وتخشاها فرار موسى من عصاه: “وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ (10) (النمل)”
وهو حال الأمم السابقة التي رأت بعين النقص الجاحدة حتى بهرتها عين الكمال فرأت تحقق الوعد وآيات الله وحاق بها العقاب ومسها شديد العذاب، ولعل أهل النظر الكوني والجيني الدقيق بعين النقص سيبهتهم ما هو أشد من ذلك.
*الأوبة وسبيل الكمال: عين النقص الجاحدة لا تؤوب ولا تتوب، ولكن عين النقص الآدمية المجردة من السر التي عليها غطاء وحجاب، فالله يجعل لها سبيل التوبة لمن كتب له ذلك، فتدعوها الحضرة للرجوع إلى عين الكمال وإلى أقوم حال، وتكتنفها عين الجمال وتسندها يد الجلال ويغمرها فيض الوصال، فتقر العين وتطمئن، ويلذ لها ما ترى في الدنيا حتى تقول عن البلاء قول الصابرة: ما رأيت إلا جميلا، ثم يكون لها في جنات الله من النعيم ما يلذ نظرا وحسا وذوقا.
“يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)” (الزخرف).
فمن آب كمّله، ومن مضى ولم يرجع لله تركه الله لنقص نفسه فأهلكه.
ولذلك دعا الله نبيّه موسى وأمّنه فرجع بعد فراره فكان من الكُمّل المخلَصين:” يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)” (النمل).
فالبصر الحديد هو لعين الكمال بالتحديد، فعين الكمال بصرها نافذ ونظرها قويم وقوي. ولله كشف الحجاب لخاصته وكشف حجب البصيرة لمن أراد، إذ أن عين الكمال هي عين بصيرة وعين بصر، متصلة بالقلب موصولة بالروح. أما عامة الناس فكشف الحجاب عنهم قرين الموت ونزيل القيامة: ” لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) “(ق).
15/09/2018 12:51