5 دقائق للقراءة
كنت تكلمت في آخر لقاء تلفزي على قناة نسمة، عن موضوع الجريمة في تونس، وعن حالة مرض نفسي اجتماعي تستحق الدراسة من أهل الاختصاص، وعناية من السياسيين ومن هم في الحكم، لأنها علامات على ما بعدها، وما سيكون خلال الفترة القريبة القادمة، خاصة اذا استمر العبث بالدولة والتردي في جميع المستويات، مع قتل الحلم واحراق الوطن وغلاء الاسعار.
وبما أن نظرة المستشرف تحتاج دراسة وخبرة وقدرة على التوقع، فإنه من الممكن نظريا أن نبين أننا قمنا بدراسات وبحوث ميدانية من منطلق العلوم الانسانية والاستشراف الاستراتيجي، ولكن الحقيقة الصادمة أن الأمر ولئن كان كذلك من سنوات، فهو اليوم لا يحتاج سوى لمتابعة لصفحات الجرائم، ونظرة سريعة على أخبار البلاد والعباد، أو لنقل إلى مشهد واحد يترجم كل ذلك وزيادة، ويعكس حالة التلاشي التدريجي التي يعيشها المجتمع التونسي في الكثير من قيمه ومقومات شخصيته الجماعية المرحة والمؤمنة والمحبة للحياة.
يوم أمس نشرت الصفحات صورة رجل يده ملطخة بالدم، في مدينة صفاقس، ولو أنه كان محترقا لمر الخبر مرور الكرام إذ أن آلاف حالات الحرق الفردي والجماعي تمت في البلاد منذ سنة 2011، وهو فيروس انطلق من تونس وانتشر في أرجاء كثيرة من العالم العربي ليكون لغة خاصة باليائسين من الحياة وفاقدي الأمل في أي تغيير أو تطوير أو انجاز للدولة، وتم التطبيع الاجتماعي مع الامر حتى صار لا يعني شيئا، في مظهر متقدم للمرض الاجتماعي. ولكن المميز في خبر يوم أمس أن ذلك الرجل وهو صاحب أسرة وأبناء وعاطل عن العمل، قام بذبح نفسه أمام الجميع، وظل ينزف حتى فارق الحياة.
هل يحتاج هذا إلى نظر وتحقيق وتحليل.
إليك كيفية التعامل الأمثل: مضطرب نفسي يذبح نفسه، وانتهت القصة.
وطبيعي حتى الذين شهدوا الامر سينسونه، فهنالك ما هو أهم: أحداث المسلسل في حلقته رقم ألفين للموسم العاشر، أو المعركة السياسية في البلاد وتطوراتها.
أما أهل الحكم فلا أظن أنهم سمعوا بالأمر، فهم الان في صراع مرير بين الاقصاء وعدم الاقصاء، وتوقيع التعديل الانتخابي أو عدم توقيعه، وإقالة الرئيس أو الضغط عليه، وغيرها من الامور التي تخص الكعكة.
والآن لننظر من وجهة نظر درامية إلى المسألة: إنسان عاقل، لعله جامعي أو لديه مستوى تعليمي جيد، له أبناء، وزوجة، وقصة حياة، أهل وأم وأب وأشقاء وأصدقاء، علاقة بالأرض والسماء، دين، وأحلام كثيرة، وفجأة يمد يده بسكين إلى حنجرته وينحر نفسه كما ينحر البعير، ألا يستحق هذا انتباها واهتماما، أو أسفا على الأقل؟
ألا يمكن أن يكون سببا في استقالة وزير الشؤون الاجتماعية أو وزير الاقتصاد، أو حركة للحكومة والدولة لفهم الرسالة وتلافي ما سيأتي بعدها؟
هنالك طريقة أخرى لتسوية المسألة، يستعملها بعض “الحكماء” من السياسيين والمسؤولين بطريقة الجدل السفسطائي القديم: وماذا في الامر، أعظم الدول فيها جرائم، وحتى أمريكا وما ادراك وفرنسا العظمى فيها من قتل نفسه. إنه أمر طبيعي. وهو نفس المنطق العظيم الذي يخرجون به على الناس عندما تحدث عملية ارهابية: وماذا فيها، أمريكا نفسها ضربها الارهاب، وفرنسا العظمى، والدول الكبرى (يمكنه سرد بعض اسماء الدول حتى وإن لم يحدث فيها شيء)، المهم علينا أن نفرح أن الارهاب ضربنا كما ضرب الدول العظمى، وأن نشكر الارهابيين لأنهم لم يقتلوا منا كما قتلوا في مدريد ونيويورك عند تفجير البرجين.
لنعد إلى مسألة الجريمة، والذبح تحديدا، الذي غزت به داعش أفكار ملايين المتابعين لصفحاتها، وقصفت عقولهم، وأتت مشاهد مسلسلات كثيرة (من بينها مسلسل عمر وأرطغرل والسلطان سليمان) لتغذيها أكثر، بل رأيتها في مشاهد للكرتون حيث يحمل وحش رأس امه الممزق يقطر دما وهو يطارد سلاحف الننجا على قناة عربية للأطفال. ومعلوم ما كان يمارسه ذباحو داعش من تدريب للأطفال على الذبح ودعوتهم للاستمتاع بالرقاب الطرية وهو ما حدث فعلا مرات كثيرة في العراق وسوريا بأيدي أطفال.
هذه الجريمة ليست يتيمة رغم أنها تمثل مرحلة متقدمة، فهناك أخبار أخرى سابقة لجرائم مرت مرور الكرام دون التفاتة، ويمكن أن نختار منها عشوائيا هذه العناوين:
نابل : زوج “يذبح” زوجته ثم يطعن نفسه بتاريخ 2015-09-05 .
جربة: شاب يذبح أمّه و جدّته قبل الافطار بتاريخ 21 جوان 2016.
فظيع/في صفاقس: شاب يذبح والده من الوريد إلى الوريد ويقطع رأسه. بتاريخ 12/09/2018. إضافة إلى الشاب الذي قتل أمه وشقياته الثلاث وحزن عند التحقيق أنه لم يجد والده. والمرأة التي قتلت رضيعها، والأخرى التي قتلت أمها وطفلها.
ويمكن بسهولة التبرير دائما: مرض نفسي، وبعض الصعق الكهربائي، وانتهى الموضوع.
أضف إلى ذلك جرائم الاغتصاب خاصة على يد الكثير ممن شملهم العفو التشريعي في السنوات الفارطة، والتي شملت رضيعة عمرها سنتان وعجائز في عمر التسعين، وحالات الانتحار للأطفال في سن السابعة والتاسعة إلى سن التسعين.
كل هذا والشعب منشغل بالرقص هنا والقفز هناك. وأهل السياسة في مجملهم همهم تلك الكعكة المقدسة العظيمة التي يهون أمامها كل شيء، ومن في الحكم لا يرون الامر بتاتا، فهنالك ما يشغل أنظارهم.
أليس من المرير جدا أن ترى وطنك يموت بهذه الطريقة البشعة المخزية، وأن يتحطم ويختنق، ويموت شبابه في البحر هربا منه، في الارهاب مللا منه، في البطالة جحودا منه، في الرداءة اختناقا فيه.
إن إقدام رجل على ذبح نفسه في يقيني واعتقادي بداية مرحلة جديدة من الدمار الذاتي، وإن من لا يفهم أن المجتمعات تمرض كما يمرض الأفراد، وأنها تمر بأحوال فيها ما يبشر بالرقي وفيها ما ينذر بالاندثار، ولكل حال مظاهر وملامح ومقدمات (اقرأ لابن خلدون إذا أردت) من لا يفهم ذلك فهو في غيبوبة مزمنة لن يصحو منها.
الانتخابات القادمة التي قد تتأجل هي الأخرى، بخلاف ما سيكون في الايام القادمة بسبب التعديلات في القانون الانتخابي، والحسابات السياسية المختلفة وتضارب الاراء والمصالح، كل ذلك سيكون عبئأ نفسيا أكبر على مجتمع مرض الكثير من مواطنيه عصبيا أو أصيبوا بالاكتئاب، فقط لمتابعة الجدال على القنوات التلفزية وفق دراسة لمستشفى الرازي، بخلاف أن البلاد التونسية تتصدر القوائم العالمية في الجلطة ومرض السكري.
إن ناقوس الخطر يدق، ولست متشائما ولا سوداويا، بل هي القراءة الواقعية ممتزجة بالحدس الاستشرافي وشفافية الروح، تماما كما كان سنة 2011 حين استشرفنا مسارات العمل الارهابي في تونس وفي العالم بدقة.
الانتخابات القادمة عليها أن تأتي بمن هم قادرون على معالجة الاوضاع بسرعة، وعلى إيقاد شعلة الأمل، ومعالجة المجتمع، ونشر العدالة الاجتماعية وانقاذ المدن المهمشة، ومنح الشباب حقهم في الكرامة والعمل، وإصلاح الادارة، وإعادة منظومات التعليم والتربية إلى السير الفعال نحو الافضل. ومراجعة الاسعار، والكثير جدا من العمل في ملفات يرجع بعضها إلى بدايات الاستقلال ويرجع البعض الاخر إلى فترة الاستعمار التي بقيت الكثير من نواميسها سارية المفعول.
أو سيكون طوفان من الجرائم والدم والفوضى، يليه اسثمار العدو الذي زرع خلايا الارهاب في الوطن، مع إقليم على صفيح ساخن سواء في ليبيا أو في الجزائر.
هذا، مع استمرار الأمل في أن يكون الغد أفضل، حتى وإن بدا من ملامحه أنه ليس كذلك.
سوسة 22/07/2019
# البلاد التونسية، المفكر مازن الشريف، علم اجتماع، علم نفس اجتماعي، مجتمع