10 دقائق للقراءة
تعتبر السياسة من أهم مقومات الحياة البشرية منذ ان صار للبشر مجموعات تعيش مع بعضها في قرى ومدن وقبائل. ومنذ ظهور منظومة الحكم على اختلاف أنواعها.
والسياسة في أصل رعاية المصالح والحفاظ على النظام والمعمار وحسن تدبير شؤون الناس وقوة الحزم دون ظلم والحكمة في الحكم وحسن النظر إلى العواقب.
ولكنها أيضا مجال الفتنة وميدان الخديعة وسوق الشيطان، أهلكت خلقا كثيرا، وسببت الكثير من الحروب والدمار والقتلى، لأن حاكما ما كان فاسد الرأي، وآخر كان مستبدا، وسواه كان مفسدا.
وحين تراجع سجل الحروب البشرية ستجد أساسها شهوة الملك والسلطان، وفساد الحكم.
وإن تناحر القبائل، والدول، والأسر الحاكمة، في العالم كله، كان باب خراب شديد وشر كبير. ولكنها حكمة الله في سير هذه الدنيا التي قامت على قانون العداوة بين إبليس وآدم، وبين ذرية آدم حسب ما تقتضي المصالح في تضاربها، وحسب نوع الإنسان ومعدنه، كالعداوة بين أنبياء الله وهم خيرة الخلق، وبين شياطين الجن والإنس والمجرمين وهم أسفلهم.
والمؤسف عند النظر التاريخي، أن النماذج العادلة في الحكم، كانت نماذج على غاية الندرة، في حين امتلأ سوق الدنيا بالفاسدين والفاسقين من أهل السياسة والحكم، ليكون تقرير ذلك في كلمة حكيمة قالتها الملكة العادلة بلقيس ونقلها القرآن الكريم وأقرها: “قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34)” (النمل)
وسوف تجد في أخبار الرومان مثلا وحرب طروادة وخبر الاسكندر شواهد عن صحة ودقة هذه الآية ورجاحة رأي الملكة بلقيس.
بل إنك حين تقرأ تاريخ الأمة الاسلامية وتصارع الدول وتعاقبها من دولة بني أمية ثم بني العباس إلى ما بعد ذلك وما كان خلاله في الأمصار ستجد فظاعات ومجازر ومآس وحروب خلفها سياسيون فاسدون ووزراء ماكرون وحكّام ظالمون غاصبون.
وإن القرآن الكريم قد وثّق بما هو الحق اليقين شواهد ومشاهد من النموذجين: النموذج العادل المهتدي بهدي الله، والنموذج الظالم الفاسد الذي يمثّل الأغلبية.
فمن الذين حكموا بهدي من الله ضمن البعد السياسي وكانوا على غاية العدل النبي داوود ابنه النبي الله سليمان الذين آتاهما الله الملك مع النبوة: ” وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا (79)” (الأنبياء).
وطالوت الملك قبل ذلك ” وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) (البقرة). في سلسلة متصلة مع داوود وسليمان عليهما السلام، إذ أن حكمه كان مباشرة قبل حكم داوود الذي حكم بعد قتله لجالوت: ” وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (251)” (البقرة).
وهنالك نموذج من كانوا حكاما عادلين وملوكا حكماء رغم ضلالهم الديني، وذلك لفطرة طيبة فيهم، مثل الملكة بلقيس. والتي كان لها مجلس شورى من الحكماء تستشيرهم في كل امر وكانوا يثقون بها ثقة كبيرة:
” قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)” (النمل)
والتي كان لها في النهاية صلة ببني إسرائيل من خلال إيمانها وزواج النبي سليمان بها.
كما ذكر القرآن خبر نموذج من استعانوا بنور الهدي الرباني في الحكم وهو الملك زمن النبي يوسف، ليكون عليه السلام أيضا حاكما عادلا منقذا لمصر من المجاعة بسر ما أوحى إليه ربه وما علمه من تأويل الأحلام وتأويله لحلم الملك. ويكون بعد ذلك قدوم أسرته واستقرار بني إسرائيل في مصر إلى فترة فرعون زمن النبي موسى.
ولكن القرآن الكريم أورد أيضا نقيض ذلك: الحاكم الظالم الفاسد المستكبر.
وقد أخبر سبحانه عن حاكم فاسق مدع للألوهية وأنه يحيي ويميت، فيجادل خليل الله إبراهيم في ربه، فيبتهته ببرهان عظيم: ” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)” (البقرة).
وهو النمرود فيما اتفقت عليه المصادر وإن يرد اسمه في القرآن ولا تفصيلا عن نهايته وحكايته، ولا بداية أو نهاية خبره مع نبي الله إبراهيم، إنما ورد التفصيل عمّن هو أضل وأطغى، وهو فرعون.
لفساد فرعون وطغيانه أوجه كثيرة ذكرها القرآن الكريم وبسطنا بعضا منها، ولكن آية حملت صورة لفرعون تحمل عبرة كبيرة، وهي قوله سبحانه: “قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) (غافر)
إن الاستبداد بالرأي، وتزيين الباطل، والترويج للضلال، وتشريع الفساد، والتلاعب بالعقول والمشاعر، وادعاء أن ذلك هدي للرشاد وخير العباد والبلاد، صفة كل سياسي فاسد، وسمة كل حاكم باغ طاغ وضيع.
لقد كان هتلر يُري أتباعه النازيين ما يرى، فاتبعوه فيما يرى، فأدى ذلك إلى كارثة عالمية كبرى، وحرب على امتداد الكوكب، وكان في زمنه أمثاله من حلفائه ومن أعدائه.
وكذا فعل من سبقه ممن كان على نهجه ومن أتى بعده، وإن كانت الحرب العالمية الأولى والثانية من أشد ما مرت به البشرية منذ آدم.
ولعل الوعد الخاص ببني إسرائيل وما اتصل به يتم في جانب منه لإيقاف الحرب العالمية الثالثة أو فور اندلاعها. وأعتقد أن العالم اليوم أقرب ما يكون إلى ذلك ضمن دراسة استراتيجية واستشرافية دقيقة للراهن قياسا بالماضي ووفق معطيات كثيرة يطول شرحها.
تلاعب فرعون بمشاعر قومه وعقوله وخداعه لهم كان سلاحه السياسي في مواجهة نبي الله وآيات الله، فهو يكذب ما يكون حقيقة جلية، فليست العصا إلى سحر رغم أن الأمر يقيني لديه أكثر من غيره أنها آية من الله.
” قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)” (الشعراء)
ولكن سياسة الخداع والكذب والنفاق تحتاج وزيرا بارعا في ذلك، وهو دور هامان، وتحتاج ملأ فاسدا، وقوما أغبياء فاسدي قلوب وأنفس. وحين كان فرعون يعلن أنه ربهم الأعلى، ويواجه بكل ما لديه إعصار المعجزات والآيات الربانية ونبوءة موسى التي تحاصره وتقض مضجعه، كان ينتقي بدهاء ما يقول، فالإخراج من الأرض، والإفساد فيها، والخوف على قومه من كل ذلك، ذرائع اتخذها فرعون ليستخف قومه ويتلاعب بعقوله ويحرضهم على معصية ربهم وعداوة نبي وتكذيبه.
.فهو حين يدعو لقتل موسى، ليس في زعمه لأنه يخشاه ويعلم أنه على حق، بل لأنه خشى أن موسى سيبدّل دين القوم يظهر في الأرض الفساد:
” وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) (غافر)
فإن كان فرعون وهو من أفسق وأفسد ذرية آدم يقول ذلك، فلا غرابة فيما يفعله دعاة الفساد وساسة الإفساد في كل وقت سيما هذا الوقت.
وإن ادعى فرعون أنه يهدي إلى سبيل الرشاد بما يراه، فلا غرابة أن ترى دجاجلة الحكم والسياسة في كل عصر يفعلون كل الفظائع والشنائع ويقولون أنهم يفعلون ذلك لخير شعوبهم ولمصلحة الأمة.
ومن صفات السياسي الدجال والحاكم المحتال أيضا الغرور والزهو والتعالي والعلو في الأرض، وأنت ترى زهو فرعون بملكه في وصف القرآن له وبيان خبره وهو يفتخر بملكه لمصر والأنهار التي تجري من تحته، حتى بلغ به الأمر طلب الصعود إلى الله ليطلع عليه.
ويمكن أن ترجع إلى تسجيلات الحرب العالمية ووقوف هتلر أمام الآلاف من جنوده بزهو وعلو وغرور يقول لسان حاله “أنا الرب الأعلى” ولا قوة تعدل قوتي لترى تمظهرا لروح فرعون إذ أن الله جعل نسخا قلبية متشابهة، وفي تشابه القلوب آيات للسائلين، وحكمة إلهية عظيمة، لها مصاديق كثيرة وبراهين لا تحصى، ويمكن توسيع مدى التشابه إلى تشابه قلوب الأخيار أيضا وليس ذلك حكرا على الأشرار، وكما تنتقل طاقة ظلامية أو روحية فاسدة من قلب فاجر إلى قلب فاجر، كانتقال فساد فرعون ونموذج شخصية إلى هتلر مثلا وإلى اللوثة التي لحقت بني إسرائيل، فهنالك نورانية وروحية طيبة وطاقة خيرة تنتقل من عارف إلى عارف من وطيب إلى طيب ويكون الأنبياء مصادر طاقة نورانية كبرى يتصل أعلاها بأدناها اتصالا دائما وينعكس الأعلى على الأدنى وصلا إلى الله سبحانه، يكون فسقة الخلق مصادر طاقة ظلماوية كبرى تتصل كلها ببعضها ويأخذ أدناها ممن هو أشد منه شرا، في اتصال بابليس اللعين، حتى تكون الأفعال والأقوال طباقا ونسخا منسوخة تتجدد في العصور باختلاف النسبة والأمزجة وكيمياء الفعل والأثر.
” وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) (البقرة).
ولعل هذا بعض من سر الذرية، وشيء من سر آل البيت في اتصالهم بالنبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهو سيد الخلق وهم سادة الناس، وسر ذريات الأنبياء المختارين من آدم إلى إبراهيم ومن فيهم من رسل وأنبياء وصالحين ضمن أقطاب ومراحل تكون مصادر للطاقة الروحية والسر الرباني. فتأمل هذه الآية:
” إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)”(آل عمران).
ومن خلال هذا نستجلي أمرين مهمّين:
*الأول: أن الحكام العادلين تشابهت قلوبهم، وكانوا نظائر يقتبسون من أهل السر الإلهي، وفيهم من كان كذلك لفطرة سليمة فيه، ومنهم من كان على هدي مع علم وشريعة، والكلام في الباب يطول، والجامع بينهم أنهم قلة في تاريخ البشرية، وأن سرّهم يمتد بين ظهور واختفاء وظاهر وباطن (إذ أن أهل الله ملوك أيضا وإن لم يحكموا بسلطان الظاهر إلا ما ندر)، وصولا للمهدي الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا كما قال جده المصطفى.
ولا يخلو حكم الأخيار العادلين من عداوة وحرب وغالبا يكون مصير هؤلاء الربانيين القتل، فانظر خبر الإمام علي عليه السلام أو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تفهم.
*والثاني: أن لفرعون نظائر تشابهت قلوبهم مع قلبهم وكانوا على نهجه في الطغيان والفساد مع اختلاف النسبة والدرجة والنوع والآليات، والجامع بينهم أنهم الأغلبية، وأن شرّهم يزداد مع الفترات والحقب، فهتلر سبب أضعاف ما سببه فرعون من أذى، وكان له من الجند والامكانات العسكرية ما لم يكن فرعون يتصوره، وكذلك سيكون فرعون الزمن الأخير الذي يسلّط الله عليه وعد الآخرة.
ولو أمكن الرجوع إلى ملفات التسجيل الزمني الخاص بهذا الكوكب منذ الفترة الآدمية ضمن البعد البشري، لرأى الرائي بدقة وصور جلية ومشاهد واضحة تسجيلات كل فرعون خاصة فرعون زمن موسى عليه السلام، ولرأى التطابق بينهم في الزهو والغرور والاستعلاء. وتطابق أقوامهم في الغباوة وغشاوة القلب، مما يجعل “استخفاف” فرعون بهم أيسر وأبلغ أثرا.
كما لو أن عبدا من عباد الله كشف الله له تسجيلات الحكم قبل آدم، وفي حضارات الجن، وغيرها مما خلق الله، لرأى تطابقات عجيبة، لأن الخالق الحكيم واحد. وهو سبحانه يهب الملك لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء، مع ما يتبع ذلك من عز عزيز وذل ذليل، ثم ذل عزيز بعد عز، وعز ذليل بعد مذلة، وغيرها من تصاريف الأيام وحكم الحكيم العلّام:
” قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)” (آل عمران)
ووهب الملك ونزعه برهانا على قدرة الله سبحانه، وما ذلك الملك إلا فتنة، فإن كان الحاكم صالحا كانت الفتنة على أعداء الحق فيحاربونه ويقتلونه، وإن كان فاسقا وهم الأكثرية، كان ذلك فتنة عليه وعلى قومه وبلاء له ولهم وللذين يتصدون له وللذين يستضعفهم ويظلمهم.
وتقتضي الحكمة الإلهية زوال كل ملك ظالم وهلاك كل حاكم طاغ بأساليب وطرائق شتى، من بينها هلاك الظالمين بالظالمين، أو انتصار المؤمنين على الفاجرين، رغم ظاهر ضعف أهل الخير وظاهر قوة أهل الباطل، مثل خبر طالوت وجالوت: ” فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) (البقرة).
وكل ذلك من حكمة التدافع، فإن تدافع الناس بعضهم ببعض ودفع الله لهم لحكمة إلهية بليغة، وفيها ما فيها من نصر الطيبين وكسر شوكة الغاصبين، كفرعون وكالذين ينتهجون نهجه اليوم وقد رصدته عين الوعد التي لا مناص لهم منها، لذلك وردت حكمة التدافع في خبر طالوت وفي خبر المسلمين وأهل الإيمان عامة ضمن مباشرتية مع المؤمنين زمن النبي محمد عليه الصلاة والسلام خاصة المستضعفين منهم والذين أخرجوا من ديارهم ظلما، لتكون في ذلك بشارة وإشارة لمن سيُخرجون من ديارهم من أهل الإيمان ظلما وعدوانا لاحقا وأخص أهل فلسطين حيث ميدان وعد الآخرة، وتهجيرهم من دورهم ووطنهم وأرضهم إلى المنافي والملاجئ وتقتيل الآلاف منهم:
” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) (الحج)
فتمكين اهل الحق حتمي، وكان له شواهد في التاريخ وإن لم يكن ذلك إلا في فترات قليلة.
وتداول الأيام بين الناس وانتقال الملك والغلبة من قوم إلى قوم ومن دولة أو أمة إلى أخرى حقيقة تاريخية وثابت بشري، ويكون الغالب ظهور أهل الشر والساسة الفاسدون وسيطرتهم وشدة سطوتهم، وفناء بعضهم ببعض، حتى يأتي التدخل الرباني المباشر الجلي في أمة معينة ولحظة دقيقة مقدرة لها أجل وسر ووعد وميقات، كما كان من أمر فرعون وعاد وثمود، ليعلن الملك أنه هو الملك وحده سبحانه، وليقول كل شيء تسبيحا ويقينا وتردد الملائكة ويشهد الأشهاد: “تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)” (الملك).
ولتنطق الأشياء بمنطقها تسبيحا وتمجيدا للعظيم جل وعلا” “فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ (83)” (يس).
إن في خبر فرعون عبر كثيرة، وفي أمر الملك وتداوله وأحواله حكم ربانية عظيمة، وإن اليقين أن الله قدّر كل شيء، وأحاط علما بكل شيء، وأن وعده آت لا محالة، يجعل الاعتبار من خبر فرعون وسوى ذلك أمرا ضروريا ومهما، يمكن من خلاله بناء نموذج مستقبلي قريب، لمن فهم فقه الواقع وعلامات الظهور في ربط بما سبق وبما وعد الله وما قال نبيه.
ويمكن لمن رام شيئا من ذلك أن ينظر نظر العقل أو القلب أو الروح، كل حسب مقامه، إلى هذه الآيات، ليرى طبيعة سياسة فرعون وغروره، وتشابه قلبه من حكام سبقوه أو كانوا له لاحقين، وليرى أيضا مآل كل سياسي فاسد سواء بحكمة التدافع، أو بعقاب في الدنيا جلي وآية قهرية واضحة، أو ما أعد الله عنده للظالمين. وليستجلي قياسا ما هو آت في أجل قريب، ولو بدا بعيدا.
“وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ (56) (الزخرف)
14/09/2018 20:15