2 دقائق للقراءة
صديق قديم جدا..لا أذكر متى عانقني أول مرة..مُر كاللحظة الأولى بعد الفراق…ساكن كالضوء في عين ميت…داكن جدا…لكنه يمنحني كل مرة معنى جديدا..
أذكر حين تحالف مع توأمه الروحي..الألم..وكيف فتت سهدي واغتال ضحكتي وأمر دموعي ألا تعتذر عن الانهمار…
أذكر جيدا…هنا على ربوة الجرح…ذاك الأسى والأنين… ولأن الألم قدر القلوب العظيمة.. فقد أصيب قلبي بجنون العظمة..لا يصدق أحد من حروفي أو أي من قصائدي أن كل هذه الإشراقات والروائع انبجست من عتمة هذا الموغل في دمي ونبضي وعينيّ…
حين يقطر الدم من العين..حين يبكي الجرح..حين يشتد الألم..ويحاصر الحزن كل أركان روحي المتعبة…أبتسم…من أين جاءت تلك الطفلة بملابسها البيضاء ووجهها الوضاء وحنانها الغامر..أنظر…أرى رجلا يمسك عصا وينظر إلي بحزن وثقة…. رجل لا أدري كيف يأتي وكيف يستمر مع كل يوم من أيامي المتلفة..رجل غامض جدا… اسمه الصبر….
تمشي..فيك جيوش من حزن…في قلبك آلاف الجراح..في ذاكرتك ملايين المواعيد..تمشي..من حولك جحافل المعجبين…والكثير جدا من الأصدقاء والأعداء…لكن وبرغم كل ذلك..تمشي وحدك…
الوحدة…وحدها تعرف معنى نفسها..ولا يفهمها إلا من فهم…فحين تفهم..تصبح وحدك…وكلما ازداد علمك ازدادت وحدتك..تظن تفردك نعمة..انظر جيدا..هل ترى في الأفق من يشبهك..ووسط الفراغ المزدحم..يتسلل إليك الزحام المفرغ..تتزاحم في عقلك الأفكار وفي قلبك المشاعر متناقضة متضاربة..وحدك ستسهر..وحدك ستكمل خطوتك القادمة..وحدك ستكتب رسالة حب جديدة..وحدك ستقرؤها…والتي تركتك وحدك..وحدها تركتها أيضا..ولأن الأرض وحدها تظل تدخر الزرقة والأمل..فإن صحاريك الممتدة في وحدتك وحدها تعدم الحياة وتزرع اليأس في كل ذرة من ترابك روحك..ووحيدا كصاحب الحوت..تصرخ “لا إله إلا أنت سبحانك”…هل كنت من الظالمين..لأن الله وحده..يعرف الإجابة..ووحده… قد يؤنس وحدتك..
من بين كل الكلمات التي يباهي بها المعجم..فإن كلمة الغربة ومفردات الاغتراب والتغريب والغرابة والتغريبة والغَرْب والغروب والغرائب وحتى الغُراب..تظل مزهوة بكونها الأكثر عقما ولؤما ودلالة على الموت والاندثار..وهي كذلك الأكثر نصاعة ويقينا وثباتا…
الغراب يضحك..لقد دل ابن آدم على طريقة دفن أخيه…ولكنه لم يدل قلبي كيف يدفن حلمه وحبه ويداري سوأة خيبته..
التغريبة رحلة مستمرة..منذ بني هلال..أبو زيد يذرع الأرض.. و”سكة أبو زيد كلها مسالك”..لكن هذا البشري المثخن بالحزن والوحدة..كل مسالكه تؤدي إلى سكة واحدة.. الغربة..ولأن الغربة عانقت الوطن..صار وطن غربة..وصارت غربة مستوطنة…ومستوطنات الغربة تبنى في جنتي..في فلسطين حلمي..على أهداب المقدس..في عيني حبيبتي..وفي كل وجه أعرفه..خاصة وجهي الذي نسيته…ومن الغرابة بمكان أن يغدو كل شيء غريبا ومعتادا..تعودنا الغرائب…
الغرب لم يبخل علينا بأي غريب..مُسخنا..سلخنا جلودنا ولبسنا مكانها جلود سحالي..تغربنا أكثر لنقترب من أشكالنا المغرّبة..وفي غروب شمس كل يوم..لا نستغرب ظلمة الليل وطوله..ولا أغرب ما نرى ونسمع..ويغرب في أرواحنا كل ألق وحلم..نتغرب شرقا وغربا…نتبعثر..ونظل نردد في أسى غريب: “ولد غريبا ويموت غريبا فطوبى للغرباء”..لكن..هل هذه الغربة فصل من ذلك..حقا..إنه أمر غريب..
تونس العاصمة
30/07/2009 02:49:19 م