3 دقائق للقراءة
انقسم الناس في الحق: بين باطلٍ عرفوه باطلا، وباطلٍ حسبوه حقّا، وحقٍّ ظنوّه باطلا، وحقٍّ عرفوه حقّا.
*فأما الباطل الذي عرفوه باطلا: فقد اقتحموه جحودا وكفرانا، وأتوه راغبين فيه، ودلوا عليه وأضلوا به كثيرا، ولم يراعوا حرمة ولا صغيرا ولا كبيرا.
سبُلهم سراب وزرعهم خراب.
فهم كدوّامة اليمّ تستجذب إليها السفن ولا تذر إلا الحطام.
وكذلك الباطل بئس التجارة وباب الخسارة، ولو ترائى لقصار النّظر ربَاحَا، وبدا لعبيد الأوهام نجاحَا.
*وأما الباطل الذي حسبوه حقّا: فقد التبس عليهم أمرهم وخفي عنهم معدنه، واستغفلتهم أحابيل الخداعين والكذبة.
فمن سمع منهم صوت الداعي للحق حقيقة ثم كان في نفسه من القبول وفي قلبه من الحياة وفي ذاته من التواضع فقد نجا بعد مهلكة واهتدى بعد متيهة ورشد بعد ضلال وانتبه بعد غفلة وانتصر من بعد ما ظُلم.
كمن تاه في بيداء وحسب السراب ماء، ثم انتبه من غفلته ورشد من ضلالته فحملته خطى التوفيق إلى نبع ماء معين لذة للشاربين، فارتوى بعد ظمأ ونجا بعد أن كاد يهلك.
ومن عاند منهم هلك بعناده، وأرداه غروره وزيّف عليه زوره.
وكان كظمآن في تيماء أوحش قفرها وشحّ معينها، وعلى ظهره شكوة فيها ماء، وفوقه صوت يناديه مدّ يدك فإن الماء قريب وإنك تحمله، فلو أنّه انتبه من غيّه وسمع ولبّى لشرب وارتوى بعد غُلّة .
لكنّه عاند واستكبر حتى زهقت نفسه.
ذلك أن الحق فطرة في النفس ومودع في القلب وصوت سماوي في ضمير الآدمي، فمن أنصت وانتبه نجى فسار إلى الحق وسار الحق إليه، ومن صمّ أذنيه فلا أسف عليه.
*وأما الحق الذي حسبوه باطلا: فقد عميت عليهم الآيات، وفتنتهم الدنيا ومسّ أنفسهم الوهم وسيطر على قلوبهم التوهّم، فتركوا الحق لظنّهم أنه باطل، فوقعوا في الباطل لزعمهم أنّه حق، فهم كمن أتوه بكأسين: كأس فيه ماء زلال، وكأس فيه سمّ زعاف، ففزع من الماء وصبّه في التراب صبّا، وأقبل على السمّ يعبّه عبّا، فما أشقاه من أعمى، وما أتعسه من شقيّ.
فكذلك حين يعمى القلب وتطغى الأمارة ويسيطر الخناس، ويحال بين الحق والناس.
لكثرة الدس وقوة المس.
إلا من شملته النظرة فأحياه المحيي بعد الموت، وأراه الحق حقا وأسمعه الصوت، وختم له بالرشاد قبل الفوت.
*وأما الحق الذي علموه حقّا: فاستيقنت به أنفسهم، وأيقنوا أنه الحق الذي لا ريب فيه، فهم بين بابين وعلى حالين وفي أمرين:
فإن نصروه انتصروا به، وإن أيدوا أيدهم بقوة الحق التي وصلها مولى الحق بقوته.
فكانوا كمن زرع في أرض مباركة زرعا فآتى أكله أضعافا، ثم اعتدى عليهم فوقفوا صفّا، وثبتوا ولم يهنوا، فنصرهم الله عليهم أو ماتوا دونه وانتصروا بشهادة الحق.
فكذلك الحارث في تراب الحق والزارع في أرضه يجد زرعه مباركا وحصاده وفيرا في الدارين، وإن لم يجد في يده في الدنيا فهو لا شك واجد له في قلبه.
ولا تسلم أرض ذلك زرعها وتلك بركتها من غاشم ظالم وطامع راصد وعُتلّ فاسد ولئيم حاسد، والنصر للثابتين ولو بعد حين.
وإن خذلوه خُذِلوا، وفي مهاوي الباطل نزلوا.
فكانوا كحامل ذهب هيِّعٍ ليّعٍ هِيع إليه لصوص، ففزع من هيعهم ، وجزع من هوْعِهم ، وهاعَ وخنع وجبُن وخضع، فما دافع ولا دفع.
فجعلوا ماله منهبا، ومتاعه مكسبا، ينفقونه على باطل ديدنهم وفساد معدنهم.
وأرغموه المقامع فلا مبصر ولا سامع.
فكذا من خذل الحق أولى أن يُخذل.
وكم حقا كان على أهله مَغرمًا، ولأهل الباطل مَغْنَمًا.
شرح بعض المفردات:
المَتْيَهَةُ : التِّيهُ
الغُلَّةُ : شدَّةُ العطش وحرارته .
رجلٌ هَيِّعٌ لَيِّعٌ : خفيفٌ جَزُوع.
هَاعَ القومُ بعضُهم إِلى بعض : هَمُّوا بالوثوب
الهيع: (اسم) صوت الريح السريعة المفزعة.
ا لهوع: (اسم): صوت الصياح بالحرب
هَاعَ فلانٌ : فزِعَ وجَبُن.