3 دقائق للقراءة
إن الفلاسفة عبر العصور قاموا بمقاربات كثيرة لفهم العالم والإنسان طرحا وتناولا.
لكن أصعب ما كان يعترضهم من الأسئلة ويستهويهم من الأجوبة “تعريف الفلسفة”.
وإذا كان سؤال “ما الفلسفة؟” سؤالا مرفوضا عند بعضهم، غامضا عند بعضهم الآخر أو يحمل إجابات ملغومة بأسئلة أخرى، فإن سؤال”ما الإبداع” لغم في حد ذاته.
هل يمكن أن نحبس النور في قارورة زجاج؟
حتى وإن أمكن ذلك المستحيل، فإن حبس”الإبداع” في تعريف مهما كان معجز ملغز وعصيّ.
فهل كنت وأنا أرغم القلم على كتابة ذلك العنوان في حالة سادية تلتذ عويل الورقة؟
إن كتابة خربشات توسم بوسام أضخم من الجسد أمر مضحك عندما تكون في الشاطئ، فإذا تقدمت في البحر موجة أو موجتين، فستجد أن الأمر يحمل بعض العقل رغم جنونه، وبعض الإمكان رغم استحالته.
إن سؤال”ما الإبداع؟” قض مضجعي، ولابد أنه فعل ذلك بالكثيرين ممن احترقوا بمواره وهم يغرقون في لجته على امتداد رحلة الإنسان الطويلة في الزمان والمكان والذات..
هل يمكنني أن أستعيد لحظة الكتابة لأسائلها كيف كانت،وهل يمكن لأي كاتب حيا كان أو ميتا أن يجيبني كيف كتب ما كتب..
حسنا..ستأتي إلي بعض الأجوبة كما يأتي طائر غبي إلى مصيدة..
وسيقال “قرأ..تعلم..حفظ..”
يحفظك الله أيتها الكلمات المسكينة..
هل كل من قرأ كتب؟
وهل الإبداع، ذلك الخلق الذي وهبه الله للإنسان وأخفى سره، مرتبط بالتحصيل والتكوين والتعلم؟
إذا كم واحدا يعرف الأدب كما يعرف أثاث بيته لكنه لم يبدع حرفا واحدا بل قضّى العمر يدرس أثرا لرجل عاش منذ ألف عام ولم يكن يعرف كيف يكتب اسمه على الرمل؟
إن التعلم والقراءة وجميع أفراد عائلة المعرفة لهم أهمية كبيرة في الإبداع إذ يساهمون في صقله وتطويره، لكن إن غاب عنهم استحال عليهم استنساخه، والأمر أشبه بمكونات الجسد ضرورية للحياة لكن مع وجود الروح فإن غابت كان الجسد جثة والحياة مواتا.
إن الإبداع هو روح الكتابة، والكتابة تخليد للحياة.
لماذا أفر إذا من مأزقي؟
ألست من يدعي حمل طلسم الإبداع وسر اللحظة الخالقة؟
حسنا..
سأسأل ما لون الماء؟وما حجم الروح؟ وكيف هي رائحة الضوء؟
الإبداع ماء يروي الروح فتزداد ظمأ.
الإبداع روح تضيء النفس فتزداد إشعاعا.
الإبداع لون لا تراه العين ولكن يلامسه القلب .
الإبداع حجم أضخم من كل الأحجام التي يمكن أن تستوعبها عقولنا .
الإبداع رائحة لا يشمها إلا من كان يملك أنفا في قلبه.
هل أجبت؟
إن الإنسان يستطيع تعريف ما يلمسه بيده أو بحاسة من حواسه، فتستطيع تعريف “الشجرة”، “القمر” و”العطر”.
هذا سهل..الشجرة نبتة، القمر كوكب، والعطر رائحة زكية.
لكن ما تلامسه الروح يظل عصيا وكأن أرواحنا تضحك من جهلنا بها رغم أنها جوهرنا.
إن الإبداع، هو باختصار قاتل، جوهر الروح.
إن الوجود خلق من العدم.. والإبداع خلق من الوجود..
صياغة جديدة للموجودات بشكل لم تحلم أن تكون عليه.
ما الإبداع؟؟
سأقص عليكم قصة لذيذة..
كان أحد المزارعين لا يزرع إلا الأحزان في قلبه ولا يحصد غير أشواك الحياة..
ذات ليلة..وهو غارق في وحدته يلتهمه الجوع ببطء..انفتح الليل ودلفت إليه أميرة الشمس وقالت هيت لك..هكذا..بكل بساطة..
في الصباح،وجد المزارع خصلة ضوئية من شعرها،وورقة من شعاع كتب عليها بماء النار “اِلحق بي إن استطعت”… وبعد أن أنهى قراءتها احترقت واصطلمت جسده.
يا سادتي..
اقسم لكم أن صديقي المزارع لو نهض من رماده، وصعد إلى الشمس، فهزم الحراس، وقرع الأجراس، وأمسك حبيبته من يدها، وقال لها “ارجعي معي إلى الكوخ..أو خذي خصلاتك”..
لو فعل كل ذلك..
فلن أستطيع أن أنهض الآن، بعد أن أضرمتني اللحظة.. كي أنطلق خلف طيف جميل..
يأتي لا أعرف كيف ولا متى، لكنه يأتي، يهبني كلمات تشع طول الليل،ثم يختفي ضاحكا.
هل فهمتم الآن.. لم كتبت.. “في تعريف الإبداع”.
” الرواضي”- تونس
27\2\2004