8 دقائق للقراءة
حين تحط بك الطائرة في مطار دكا عاصمة بنغلاديش، ستجده يحمل اسما مميزا: مطار حضرة الشاه جلال الدولي، ولعلك ستظن أنه زعيم سياسي للبلاد، مثل أبي الأمة الشيخ الشهيد مجيب الرحمان، والد الشيخة حسينة رئيسة حكومة بنغلاديش الحقيقية، لكن معرفة هوية الشاه جلال وحكايته وقيمته وسبب توقير البغاليين له، ستحملك إلى شمال شرقي البلاد، وإلى تاريخ عميق وعظيم، تجد فيه خطاك تمشي على خطى رحالة العالم القديم الأكبر والأهم ابن بطوطة، وعلى عبق إسلامي جميل، وعطر من عطور الصالحين التي يفوح شذاها في أرجاء الكون إلى أبد الآبدين، أجل، فمطار بنغلاديش الدولي يحمل اسم قطب هذه البلاد من أهل الله الصالحين والأشراف أحفاد رسول الله، القادم من بعيد جدا، وكذلك قدمت إليه من مسافة أبعد، رغم اختلاف الوسائل والزمن، ولكن العشق واحد.
في مدينة سيلات الواقعة شمال شرقي بنغلاديش والتي تبعد قرابة المائتين وخمسين كيلومترا عن دكا العاصمة، حطّت بنا الطائرة بعد رحلة دامت أربعين دقيقة، وكان بصحبتي رفيقي مقصود الرحمن، احد المقربين من الشيخ السيد سيف الدين أحمد المجبندري، وكنت قاصد الرحمن لزيارة أحد أحبابه المقربين وأوليائه الصالحين.
في المطار استقبلني بعض مريدي الشيخ، وفي النزل وجدنا صاحبه مع بعض مسؤولي ومشرفي زوايا الطريقة المجبندرية القادرية في تلك المنطقة، بالورود والمحبة، وبطيبة مذهلة، وكان ليلا عجيبا بالتسبيح والذكر محفوفا بالروحانية عجز فيه النوم عن التسلل إلا للحظات كانت الرؤى فيها جلية عن صفوف من الصالحين رغم أني جئت أزور واحدا فقط، لكن أليس الواحد في ديوان أهل الله موصولا بالكل؟
صباحا جاء المرافقون للزيارة العظيمة، وبعد نصف ساعة وجدت نفسي في حضرة الجلال والجمال، فكان النشيد الشهير في بلاد هندوستان كلها بالأوردو: “مصطفى جاني رحمت بي لاكهون سلام Mustafa Jane Rahmat Pe Lakhon Salam ” والتي تعني يا مصطفى أيها الرحمة عليك السلام، ثم كان لي شرف الدعاء في تلك الحضرة العظيمة، وكم أذهلني تدافع الناس لالتماس الدعاء والبركة، كبيرهم وصغيرهم، فقيرهم وغنيّهم، مدير بنك المدينة وأحد كبار المسؤولين السياسيين فيها، حتى بعض النسوة والفتيات حاولن تجاوز الحشود والمرافقين، كلٌّ يسألك أن تدعو له، يقف شاخصا متواضعا، وترى بعضهم ينحني للمس قدميك دلالة الاحترام لدى تلك الشعوب الهندوستانية العظيمة سواء في بنغلاديش أو الهند، كل ذلك لأنهم سمعوك تتكلم العربية وتتلو القرآن، لأنهم سمعوا أنك من نسل النبي، ولأنهم علموا أن لك صلة بذلك الولي، وبعيدا عن أي مظهر زهو بالنفس، تساءلت: ما خطب العرب؟
هل قتل أحفاد النبي غير العرب؟ هل حارب وطارد الأشراف في أصقاع الأرض غيرهم؟ هل قاتل وقتل الصالحين سواهم؟ فإذا مضى المولى إدريس إلى البربر بالمغرب وجد الحفاوة، وإذا أتى مولانا معين الدين إلى الهند أو الشاه جلال إلى بنغلاديش وجد الحفاوة والحب..
لماذا كل ذلك الصلف المتوارث منذ يزيد وأزيَد قبله؟ والمستمر إلى اليوم أذية لآل رسول الله وللصالحين تكفيرا وتفجيرا بأيدي شراذم بني وهبان ومن على شاكلتهم من الأعراب؟
بل هم استغلوا مثل هذه الحفاوة لزرع سمومهم حيثما حلوا بعد أو سرقوا اسم أهل السنة والجماعة وتحيلوا على المسلمين جميعا.
إنها حيرة لا تزيدك الإجابة عنها إلا مرارة وأسفا وغضبا.
بعد تلك الزيارة الطيبة مضينا إلى الشاه بران، ثم السيد برهان وضريحي ابنه وزوجته الشهيدين، وأنهينا الزيارة وعدت بالطائرة إلى دكا لأمضي في زيارة أخرى لأحد كبار الصالحين أيضا أقص خبره لاحقا.
مدينة سيلات مدينة جميلة، والتي كانت تسمى أيضا جلال آباد، يختال فيها نهر يأتي من الهند وينقسم في بنغلاديش إلى فرعين، ومن حولها جمال تشمج بعزة، وهي مدينة الشاي بلا منازع، ترى حدائقه في كل مكان من حولك، لكن للمدينة قصة عجيبة، يتصل فيها اليمن بالهند وبغداد، وطنجة بمكة والمدينة، ولعلي جعلت لها صلة بتونس بزيارتي التي أردت أن أصل بها حبلا مقطوعا منذ سنين أو ربما منذ قرون.
كانت سيلات في القرن الثالث عشر محكومة بأسرة هندوسية هي سلالة ديفا، بعد ممالك سابقة أولها حكم الملك الملك شاشانكا King Shashanka مؤسس دولة الغور Gaur Kingdom، وسنة 1287 للميلاد حكم الملك راجا غور غوفندا ديفا Raja Gaur Govinda Diva.
كان أول المسلمين في سيلات اسمه برهان الدين، وحين ولِد ابنه البكر غولجار عالم، ذبح بقرة في عقيقته، ولكن الملك الهندوسي غور الذي يرى قداسة البقرة عاقبه بقسوة، قتل الرضيع وأمه، وقطع يد برهان، الذي استنجد بسلطان غوا في الهند شمس الدين فيروز شاه، الذي أرسل ابن أخيه ثم قائد جنده ناصر الدين، ولكن الماء والنهر منع عنهم المدينة، وحينها يصل الشاه جلال مع جيش مختلف، ابن أخيه فرحان وثلاثمئة وستون من الصالحين، بعد أن أرسله السلطان فيروز شاه.
الحقيقة أن معرفة ما حصل فيما بعد يتطلب معرفة ما كان قبل ذلك، وتحديد هوية شاه جلال.
في قرية كَنينة، التابعة لوادي حجر الزراعي، الواقع غرب مدينة حضرموت، وُلِد للسيد محمد بن محمود بن إبراهيم من زوجته السيدة فاطمة الحسينية ابن سنة 1271 للميلاد سماه جلال الدين، وكان السيد محمد عالما وفقيها وصديقا لمولانا جلال الدين الرومي ولازمه فترة في قونية، لذلك اشتبه المؤرخون أن يكون ميلاد السيد جلال الدين في مدينة قونية لا في حضرموت، وقد نهل جلال الدين من علم أبيه، ثم أرسله أبوه إلى خاله الشيخ الصوفي والعارف الشهير السيد أحمد كبير في مكة المكرمة، حيث صار حافظا وفقيها، وأخذ عنه الطريقة السهروردية، وصار من كبار العارفين فيها بعد ثلاثين عاما من العبادة والتريّض الروحي في تلك البقاع الطاهرة، وذات يوم أعطاه خاله تربة وقال له: امض إلى الهند فإن وجدت أرضا لها لون ورائحة هذه التربة فامكث فيها وانشر الإسلام.
سنة 1300 للميلاد يصل السيد جلال الدين المجرد رفقة ابن أخته السيد فرحان إلى الهند، حيث مضى إلى أجمير والتقى العارف الكبير السيد معين الدين الجشتي مؤسس الطريقة الجشتية وناشر الإسلام في تلك البقاع (والذي أمضي لزيارته قريبا)، وفي دلهي التقى بالولي الكبير السيد نظام الدين أولياء، وعدد آخر من العارفين والصالحين، وبلغ خبر قدومه سلطان غوا الشاه فيروز، فاستعان به في نصرة برهان المسلم المظلوم، وهنا يدعو السيد جلال 360 من الصالحين من مريديه ومريدي معين الدين ونظام الدين أولياء وسواهما ليكونوا تحت إمرته، ويصل إلى سيلات سنة 1303، وهنالك يجد الجيش محتجزا بالنهر، فيجري الله على يديه كرامة عبوره بالجيش فوق الماء كما اتفقت جميع المصادر، وعندنا في العقيدة (وأثبتن للأولياء الكرامة) وما ذلك على الله بعزيز، ثم يؤذّن الشاه جلال، فيسقط قصر الملك الهندوسي الظالم غور غوفندا ديفا، وينهار جيشه، ويُقتل، ويسيطر القائد عبد الرحمان على المدينة.
هنا يرحل من يرحل ويبقى من يبقى، القصة منذ تلك النقطة تتمحور حول السيد جلال، إذ يَجد التربة التي حدثه خاله الولي الصالح السيد أحمد كبير وهو بمكة، وهنالك تكون له زاويته ويبني مسجدا توضع فيه نقوش قرآنية قيل أنه جلبها معه من مكة أو اليمن، وهي باقية لليوم، ويدخل الناس في الإسلام، بوذيون وهندوس حتى تسلم المدينة كلها بكرامة وهداية ومحبة ذلك الولي، ويتصل السر الشريف بين سيلات ودلهي وأجمير ولاهور (حيث مقام داتا دربار، الأهم في جنوب آسيا، للولي الكبير أبو الحسن علي بن عثمان الهجوريري الغرنوي) وقونية وخراسان وأصفهان وبغداد وحضرموت ومكة والمدينة، ليكون آية لله وبرهانا لأهل الله وللسادة الأشراف ولأهل التصوف الحق في النصرة والدعوة والهداية والمحبة والذوق، وما أحوج القدس اليوم لمثل ذلك.
أثناء رحلته الأطول في تاريخ البشرية، كان الرحالة الأهم الفقيه والمؤرخ والقاضي محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي الشهير بابن بطوطة، والذي قطع أكثر من 121 ألف كلم، “وهو رقم لم يكسره أي رحالة منفردا حتى ظهور عصر النقل البري بعد 450 سنة”، وانطلاقا من طنجة بالمغرب الأقصى بداية من سنة 1324 ليمضي إلى ودامت رحلة 27 سنة طاف فيها بلاد المغرب (تونس وليبيا) ومصر والسودان والشام والحجاز وتهامة ونجد والعراق وفارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين والجاوة (أندونيسيا) وبلاد التتار وأواسط أفريقيا، كان حينها في ميناء شوتاغونغ Shuttagung (المدينة التي كنت بها وأرجع إليها غدا وبجوارها مدينة مجبندر مدينة الصالحين)، ومن هنالك عزم على زيارة الشاه جلال لما سمعه عن كراماته وقيمته، ويمضي ابن بطوطة إلى ميناء ستاغوان Staogoan، ثم يقطع جبال كاماروبا Kamarupa لمدة شهر، ليصل إلى سيلات أو سيلهات Sylhet حيث يذكر أن تلاميذ الشاه جلال استقبلوه قبل أيام من وصوله ورافقوه، كما يذكر اللقاء ويصف الشاه جلال بالطويل والنحيل ونقي البشرة، وأنه كان يعيش في مغارة بجوار المسجد، ولا يمكن من متاع الدنيا سوى ماعز يحتفظ بها للحليب والزبدة واللبن، وأن أصحابه ومريديه كانوا من الأجانب وكانت لهم قوة كبيرة وشجاعة عالية (لعلّ فن البنشاك سيلات القتالي الذي أسسه المسلمون اشتهر لاحقا في أندونيسيا وماليزيا نابع من هؤلاء المقاتلين الأشاوس ومنسوب إليهم خاصة وأن منهم هنود وعندهم فن الكالاريبايات القتالي العظيم). كما ذكر ابن بطوطة أن الناس يتوافدون على الشاه جلال لطلب النصح والبركة.
كان اللقاء سنة 1345، وقد دوّن ابن بطوطة ذلك في كتابه “تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأمصار” الذي أملاه على العالم الغرناطي ابن الجزي الكلبي، بدعم من سلطان المغرب أبو عنان فارس وبقي لخيبة الأمة في طي الإهمال إلى سنة 1853 للميلاد حيث نشر العالمان الفرنسيان تشارلز ديمفري وبينيامينو سانقوينيتي سلسلة من خمس مجلدات تحوي النص العربي والملاحظات والترجمة للفرنسية من مخطوطات خمسة تم العثور عليها في مدينة قسنطينة الجزائرية ما بين عامي 1830 و1840 حيث احتوت مخطوطتان على النص الكامل، وكان ذلك من طرف المستعمر الفرنسي، أليست خيبة من خيبات كثيرة؟
حضرة الشاه جلال، الذي يسمى به مطار دكا الدولي، ليس سوى السيد جلال الدين المجرد النقشبندي، اليمني الحضرمي، العربي القرشي، والذي يحتل مكان الصدارة في أولياء الله ببلاد بنغلاديش، مع أحمد لله المجبندي حفيد الشيخ عبد القادر، وأيضا الشاه علي البغدادي الملقب بسلطان الأولياء والذي زرته اليوم في منطقة ميربور التابعة لدكا، وهو من رجال القرن الخامس عشر، وليس في الحقيقة سوى ابن العلامة الكبير والفقيه وعالم الكلام الإمام فخر الدين الرازي، وهؤلاء جميعا من أعلام السنة، ومن سادة العلم في المسلمين، وكبار الصوفيين والصالحين، ولكن متى كانت آخر زيارة لعربي إلى الشاه جلال، أو الشاه باران (وهو ليس سوى ابن أخته السيد فرحان)؟
إن زيارتي لهؤلاء السادة ليست من باب العبث أو السياحة الترفيهية، إنها رسالة وواجب: رسالة محبة تخترق المكان والزمان إلى رجال الله الذين نشروا كلمة الحق في أصقاع بعيدة جدا نتعب حتى نصل إليها ونحن على أفضل الطائرات وأكثرها رفاها فكيف بهم يمتطون الخيل والجمال في طرق وعرة بعيدة، ويركبون السفن التي تحمل الموت أكثر مما تحمل الحياة. وواجب تجاه أهل الله عامة، وآل البيت أحفاد المصطفى خاصة، الذين يجمعني بهم شرف الانتساب والنسب، نسب لآل محمد ونسبة لأهل الله، أعز عليّ من كل ما في الدنيا من متاع.
وإن النظر في أحوال هؤلاء القوم وتوقيرهم للعربي عامة وللسادة خاصة، وحبهم وتواضعهم مهما علا جاههم ومنصبهم، والنظر في توقيرهم للصالحين، وحفاظهم على مقاماتهم، يكشف لكل ذي لب كم أن الفكر الوهابي خطير على الأمة ومن خلفه الصهاينة، لأنه يريد أن يستأصل كل بركة من أمة محمد ومن الإنسانية وينقم على السابقين بالمعروف وعلى أهل الله خاصة وآل البيت بشكل أخص، ولو سيطروا على هذه الربوع لفعلوا فعلهم بالبقيع وبمقامات أهل الله في الشام والعراق واليمن وليبيا.
وكذلك كم للفاسدين من العرب وهم كثير للأسف من ضآلة نفس وصلف تمنعهم من الإقرار بفضل صاحب الفضل، بل يتكالبون حسدا ويدبرون جحودا، إلا ما رحم ربي من أهل التزكية والإخلاص الذين لهم الإجلال والتقدير.
أما الختام، فهو عزمي على إكمال الرحلة وربط الصلة، لأزور أحبة وأصدقاء ورفاق الشاه جلال: السيد معين الجشتي في أجمير بالهند، والسيد نظام الدين أولياء في دلهي، ثم المسلمين في كيرالا ومن فيها من صالحين، ولعل الرحلة تأخذني إلى لاهور وإلى داتا داربور التي اعتكف فيها مولانا معين الدين الجشتي وكذلك أتى منها السيد أحمد الله المجبندري الذي أكون في رحابه غدا، ثم تكون الرحلة إلى أندونيسيا وماليزيا، لعلي أظفر بزيارة صالح ولقاء عالم واستجابة دعوة لي وللمسلمين كافة وأحبتي في الله خاصة كما دعوت في كل زيارة وعند كل ولي، ولعلي أجد صلة بين فن البنتشاك سيلات ومدينة سيلات، وبين تلاميذ ورفاق الشاه جلال وقوتهم وشجاعتهم، وفن دفاعي رائع وجميل، نحتاج روحه لصوفي فاعل ومدافع عن دينه وامته ومقدساته بشتى أنواع الدفاع، ولقوة في عقله وقلبه وجسمه وروحه، ولي في الهند لهذا الفن أواصر من فن الكالاريبايات الذي حمله الراهب والأمير بودي دارما عبر جبال الهملايا إلى الصين في القرن الخامس للميلاد، ولي مع الصين من وراء ذلك موعد بعد أجل قريب إن شاء الله، حيث أعانق مهد أكثر فن دفاعي أتقنته وعشقته: فن شاولين، فن الراهب الهندي الأشهر في بلاد آسيا، والذي لا أراه إلا ينحني احتراما لمقاتل فاقه قوة وقدرة على عظيم ما كان له من قدرة وقوة: الشاه جلال، الذي عبر النهر بالخيل وهدّم قصرا بآذان، وأتى بالصالحين في ملابس مقاتلين أشاوس لا يشق لهم غبار..
أليست الأمة قادرة لو اجتمع أمثال الشاه جلال من هدم قصور الغاصبين والخونة ومنازلهم وتحرير القدس وتطهير الأرض المقدسة بمجرد قولهم: يا ألله.
ولكن بأي حال وأي مقال، سر قد يجيب عنه اثنان: الشاه جلال، أو إمامه المنتظر القريب.
وللكلام بقية….
دكا، بنغلاديش.
14/12/2017 – 21:25