في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء

ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ صاحبها بين أطوارها وأحوالها فتنسيه في بسطها ما كان من قبضها، وفي قبضها ما كان من بسطها، فلا يرى بعد العسر الذي تجرع مراره فأفضى به إلى يسر يتلذذ حلاوته للعسر معنى، ولا يجد لليسر الذي مكث فيه من الزمن ردحا فأعقبه عسر كالح مذاقا سوى شيء قريب من التوهم.
بل إن الفناء فيها لا يدفع لخوف الفناء لدى من لم يطوه الفناء بعد، بل يزداد رغبة في البقاء ويستمسك بما استوثق من زواله، وعلم يقينا أنه عابر غيم لا يدوم فوق مكان.
هي الحياة التي لا تملك من أمر نفسها شيئا، بل هي منشأة مشيأة على مراد من أمضى أمرها وأراد.
في تقلباتها حكمة، وفي أطوارها سنة، لا تبديل فيها ولا تحويل.
والحكيم من أدرك فناءها في بقائها، وعاين بقاءها في فنائها، فعين الفناء فيها بقاء، وعين البقاء فيها فناء.
لأن الفناء حكم المفني، والمفني باق، والباقي عند الباقي باق ولو كان فانيا، وعمله في دار الفناء باق طالما قصد به وجه صاحب البقاء، واتخذه جسرا إلى دار البقاء، حيث لا زوال ولا فناء، إلا الفناء في الباقي الذي لا يفنى.
أما البقاء ففسحة مدة، ومجال مهمة، وبسطة عمر محاط بقدر، وطالما كان ذلك البقاء المسور بالفناء أمدا لتتمة أمر وإنجاز مهمة وتنفيذ وعد والبر بعهد، فهو بقاء طويل ولو قصر، خالد الأثر ولو كانت مدته فانية، وأجله في عين مطلق الأمد قصيرا.
ومن أدرك هذا، كان حاله مع مولاه، في كل مقام وكل حالة وحال.
فليس العسر إلا وجه من وجوه تجلي الجلال بالقهر، ولا اليسر إلا وجه من وجوه تجلي الجمال باللطف.
وما في البسط سوى منّة المنّان، وفيوضات الرحمن.
وما في القبض سوى حكمة الحكيم، وقوة العلي العظيم.
فإن كان العارف في بسط شكر، وإن كان في قبض صبر.
وهو بينهما راسخ في مقام الحامدين، ثابت على حال العابدين.
وإن اتسع أمامه بسط وجد لم ينس ضيق القبض وسجد بذل الافتقار. شاكرا لمن أنعم عليه فنجاه من الغم والهم، وكان فضله عليه كبيرا. باذلا الإحسان للإحسان، موقنا أن كل شيء فان.
وإن ضاق به مضيق قبض لم ينس ما كان من بسط المنعم وجميل المحسن، فسجد حامدا لمولاه على ما أولاه، سائلا لطفه مستجيرا به، ومن يجير المضطر سواه، ومن يعفو ويرحم غير الله.
فخذها مني لك نصيحة، ولا تسقط في جهالة النسيان.
واصبر لحكم ربك، أيها الإنسان.