3 دقائق للقراءة
وأنت بجوار الكعبة المشرفة، تشهد المشهد العظيم، ترى بعينك الطائفين، وترى بقلبك الأولين، وتنظر بروحك إلى وجوه النبيين، من آدم الأول، بعد أن تاب الله عليه وتلقى الكلمات يطوف مع حوائه، إلى شيث ونوح وإبراهيم وإسماعيل عليهم السلام، وترى جمال وجلال الرفع والرافعين يتضرعان إلى الله: ﴿وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّاۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ﴾ [البقرة ١٢٧].
ثم تبصر بشهود سرك فضل الله وما بوّأ لخليله ليطهر بيته لضيوف الرحمن: ﴿وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَ ٰهِیمَ مَكَانَ ٱلۡبَیۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِی شَیۡـࣰٔا وَطَهِّرۡ بَیۡتِیَ لِلطَّاۤىِٕفِینَ وَٱلۡقَاۤىِٕمِینَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾ [الحج ٢٦]
ثم تصيخ سمع الروح حتى تسمع النداء:﴿وَأَذِّن فِی ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ یَأۡتُوكَ رِجَالࣰا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرࣲ یَأۡتِینَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِیقࣲ ٢٧ لِّیَشۡهَدُوا۟ مَنَـٰفِعَ لَهُمۡ وَیَذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِیمَةِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِۖ فَكُلُوا۟ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُوا۟ ٱلۡبَاۤىِٕسَ ٱلۡفَقِیرَ ٢٨ ثُمَّ لۡیَقۡضُوا۟ تَفَثَهُمۡ وَلۡیُوفُوا۟ نُذُورَهُمۡ وَلۡیَطَّوَّفُوا۟ بِٱلۡبَیۡتِ ٱلۡعَتِیقِ ٢٩﴾ [الحج ٢٧-٢٩]
هو بيت عتيق، محرم، مبارك، قديم، كان قبل آدم الطين. لطائفين وعاكفين قبله، ببكة من مكة، موضعا فمكانا.
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَیۡتࣲ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَكَّةَ مُبَارَكࣰا وَهُدࣰى لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [آل عمران ٩٦]
وفي طي هذه المشاهد والشواهد يسعى نور الله في قلوب الموصولين، ويسري حبه في سرائر المقبولين، وتنجلي البشرى لأصحاب اليقين، فكأنك بالملائكة ينزلون مبشرين:﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ تَتَنَزَّلُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ أَلَّا تَخَافُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَبۡشِرُوا۟ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت ٣٠]
وبين مشاهد الجمال، يتجلى مشهد الجلال، فإذا بنبي الله إبراهيم عليه السلام يناجي ربه بقلب منكسر متضرع: ﴿رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ﴾ [إبراهيم ٣٧]
وليكون درس من دروس التسليم العظمى، ولتناديه السيدة هاجر وهو يمضي دامع العين غير ملتفت: يا إبراهيم أربك أمرك بهذا، فيجيب دون التفات: نعم.
ولتسعى السيدة هاجر بين الصخور والكثبان وقد ظمأ رضيعها، تبحث لعلها ترى قافلة فيها للرضيع الظميء غلة تبرد حر الظمأ والقيظ، حتى تسمع زم زم، وينفجر الماء من بين أصابع الرضيع الذي سيكون جد النبي الأعظم الذي ينفجر الماء من بين أصابعه ليسقي جيشا بأكمله.
وفي سعي هاجر بين الصفا والمروى، سير وسلوك إلى الله. فالسير سير الصفاء والصفوة، والسلوك سلوك المسلِم المسلِّم، فإذا صفا ارتوى، وإذا ارتوى زمزم سره للناس فصافاهم وصفّاهم، وصفّهم صفا ليجعل منهم صفوة يروون الحق بعد أن ارتووا منه، وفي ذلك حقيقة التصوف الذي لم يعكر صفوه وهم. ويعكر نميره دجل.
ولأجل كرامة الصديقة الولية، جعل الله السعي بين الصفا والمروى شعيرة من شعائره، تذكيرا بجاه أوليائه، وصبر أصفيائه، ليسير على ذلك أعظم أنبيائه، ولينزل الوحي مبينا مرشدا:﴿۞ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَاۤىِٕرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَیۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرࣰا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِیمٌ﴾ [البقرة ١٥٨].
وعند صفاء سرك وارتواء قلبك، تنظر عبد المطلب يحمل رضيعا عند البيت الحرام ويرفعه وقد عجب الناس من نور وجهه وجمال محياه فهتفوا: ماذا تسميه، فيقول: محمد، محمد بن عبد الله.
ثم ترى الموعود وقد اختلف الناس في الحجر الأسعد يحكم بينهم بالحق، فيسمونه الأمين.
بل لعلك نظرت إلى جيش أبرهة يريد الكعبة، وجنين آمنة، فيقول عبد المطلب لابرهة الذي هابه: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، بعد أن استيقن من رؤية الفيل كما أخبر إسماعيل عليه السلام عنه وصفا ليكون دليلا على ولادة النبي المنتظر، ويأتي الرد الرباني دفاعا عن بيته ونبيه وهو مستأمن في بطن الطاهرة من صلب النقي الطهور: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِیلِ ١ أَلَمۡ یَجۡعَلۡ كَیۡدَهُمۡ فِی تَضۡلِیلࣲ ٢ وَأَرۡسَلَ عَلَیۡهِمۡ طَیۡرًا أَبَابِیلَ ٣ تَرۡمِیهِم بِحِجَارَةࣲ مِّن سِجِّیلࣲ ٤ فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفࣲ مَّأۡكُولِۭ ٥﴾ [الفيل ١-٥]
وتنظر إلى فيلق الأبابيل يستعد بعد فترة ليكون مع قائم يقوم بين الركن والمقام في أجل قريب.
وعندما يطلب أهل مكة المطر، يستسقي لهم عبد المطلب بولده، فيقول أبو طالب:
وفي الكعبة ترى المولود العظيم يولد في جوفها مباركا، تسميه بنت أسد: حيدرة، ويسميه النبي: عليا، ليكون سيفه ومعجزة من معجزاته العظمى..
وفي جوار بيت الله الحرام مشاهد كثيرة، حاول ان تراها وتنظر فيها، لعلك تبصر النبي فاتحا، وترى المهدي قائما، وتنظر عيسى واقفا، وتشهد الدخان قادما، وتنطوي عندك الأزمنة، وتطوى لديك الامكنة، لترى وجه كل من طاف، وحج واعتمر واعتكف، ولترى الساعة وقد قامت، والخلق وقد حشروا، ينادون: لبيك اللهم لبيك. وخاب يومئذ الظالمون.
ثم يصير كل شيء هباء، حتى لا يبقى إلا الحق سبحانه، يقول أنا الملك.
فإن فعلت فأبصرت، فعرفت وغرفت، فأنت الولي حقا، وأنت أنت في الرجال.
فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر.
والحمد لله رب العالمين.
وكتب أبو علي مازن الشريف الحسني الحسيني
نفحا آنيا من جوار الكعبة المشرفة، في انوار ربيع الأنور، بمدد محمدي وذوق خضري ونفحة جيلانية مهدوية.