5 دقائق للقراءة
من كتابنا: الفاتحة في أحكام الفاتحة
أنا النقطة التي تحت الباء.
الإمام علي عليه السلام
************************
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ﴾
البسملة هي أول الفاتحة، والفاتحة أول القرآن.
والبسملة أول ما يُفتتح به كل أمر وخير.
الباء أول البسملة. والاسم أول الكنه.
الله أول اسم.
الرحمن أول أسماء ذات الله المتعلقة بالله.
الرحيم أول أسماء الله المتعلقة بخلقه.
فكلها أولية وابتداء وفتح. وكلها مفاتيح لخزائن الخير.
﴿ب﴾
الباء أول البسملة والنقطة أول نشأة الباء.
والكسرة أول حالها وآخره.
وهذا تفصيل ذلك.
﴿.﴾
النقطة التي تحت الباء أصلها ومنشأها وما منحها معناها. ثم أضيفت نقطة أخرى، وكانت نقطتان تحت (ياء) وفوق (تاء) وثلاث نقاط (ثاء) ولكل نقطة وزيادة سر ومعنى[1].
ومن ذلك أن كل شيء بدأ من نقطة واحدة ثم جعل لها زوجها فأصبحتا نقطتين ثم كانت نقاط كثيرة من ذلك وهي عند الله نقطة رغم تلك الكثرة.
ولهذا الأمر معان شاسعة ومجال واسعة.
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَاحِدَةࣲ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالࣰا كَثِیرࣰا وَنِسَاۤءࣰۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبࣰا﴾[2]
﴿وَمِن كُلِّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَیۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾[3]
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَاسِیَ وَأَنۡهَـٰرࣰاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِی ذَلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾[4]
﴿وَأَنَّهُۥ خَلَقَ ٱلزَّوۡجَیۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰ﴾[5]
والنطقة هي الهباء الأول، نون التكوين، بذرة الخلق.
فكل شيء بدأ من نقطة، ويرجع إلى نقطة.
وكل شيء في عين الله مهما اتسع وشَسُع نقطة أحاط بها.
وكل حياة مهما طالت نقطة.
والحياة الدنيا نقطة.
والأولى من الآخرة نقطة.
وكل أعداد الخلق فيما أحصى الله نقطة، وفي عين الله نقطة.
والأرض من السماء نقطة. والسماء الأولى من الثانية نقطة. وكل سماء من اللتي فوقها نقطة.
والكرسي من الأفق الأعلى نقطة.
والأفق من العرش نقطة.
والعرش والفرش في يد الله نقطة.
وقد أحاط الله بكل نقطة.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءࣲ مُّحِیطࣰا﴾[6]
وكل ما كان نقطة في نشأته (نطفة، ذرة..) سوف يُطوى ويرجع إلى نقطة الصفر التي بدأ منها.
﴿یَوۡمَ نَطۡوِی ٱلسَّمَاۤءَ كَطَیِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ كَمَا بَدَأۡنَاۤ أَوَّلَ خَلۡقࣲ نُّعِیدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَیۡنَا إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِینَ﴾[7]
وكل عدد ما اتسع، بدأ من نقطة.
وكل حجم مهما شسُع، بدأ من نقطة.
وكل سرعة مهما بلغت بدأت من نقطة.
وكل الأرقام والكائنات بدأت من نقطة.
وكل ذلك مهما بلغ، عند الله نقطة.
وجمعه وجميعه، وكثيره وعديده، وفسيحه ومديده، ومتنوعه ومتعدده، مطوي في علمه مضموم في قبضته كأنه نقطة.
بل أمر خلقه المتعدد، ثم بعْثه على كثرة تعدده، دون تفريط،كأنه نقطة كذلك.
﴿مَّا خَلۡقُكُمۡ وَلَا بَعۡثُكُمۡ إِلَّا كَنَفۡسࣲ وَاحِدَةٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعُۢ بَصِیرٌ﴾[8]
وقد استوت الباء على النقطة استواء السفينة على الجودي.
فكان استواؤها لاستواء من خلقها على عرشه استواء مهيمن عظيم لا يحويه مكان ولا يطويه زمان ولا يشابه الخلق.
﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾[9]
إنما جعل كل شيء بميزان، وجعل الباء على نقطتها ميزانا، وجعلها تحتها طيّا مخفيا، وفي وسطها توسّطا لا تفريط ولا إفراط فيه.
ولكل ما خلق نقطة وباء، ميزان واستواء.
﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِیزَانَۗ وَمَا یُدۡرِیكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِیبࣱ﴾[10]
﴿وَٱلسَّمَاۤءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِیزَانَ﴾[11]
وللميزان معان شتى، كما للباء معان شتى. فذلك من رمزية الحرف وبواطن معناه وأسراره وموازينه. فالنقطة تحت الباء سر، والباء فوق النقطة سر. وكل ذلك ميزان. ولكل ذلك موازين.
﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ ﴾[12]
والله الذي جعل أول البسملة باء على ميزان النقطة. جعل أول خلقه نقطة ثم استواء حرف الوجود وفتح باب الشهود.
وهو الذي سيطوي كل شيء في نهاية الدنيا في نقطة بقهر قوته وعظمة جبروته: ﴿وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعࣰا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَاتُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِۦۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾[13]
ليفتح بعد ذلك باب الأبد وتبدأ مرحلة لا نهاية لها، فيعيد الباء فوق نقطتها استواء للملكوت بشكل أعظم وأكثر نورا وأشد عظمة وأحلى جمالا.
﴿یَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَیۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَـٰوَاتُۖ وَبَرَزُوا۟ لِلَّهِ ٱلۡوَاحِدِ ٱلۡقَهَّارِ﴾[14]
﴿وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ وَجِا۟یۤءَ بِٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَقُضِیَ بَیۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ﴾ الزمر ٦٩
﴿ــِ﴾
الكسرة تحت النقطة انطواء الأسرار في نطقة الخلق.
وأن كل شيء يبدأ نقطة وينتهي نقطة، منكسرٌ لله طوعا أو كرها.
انكساره في الوجود سجود. وانكساره بالموت فناء. وانكساره في الأبد حمد أهل الثواب، وذل أهل العذاب.
وانكساره لمن عرف ربه انكسار محب لمحبوب، وذل عاشق لمعشوق.
والكسر سجود كل شيء في عوالم النقطة الكونية والنقطة التكوينية.
فما من شيء إلا ساجد شاء ذلك أو أبى.
﴿وَلِلَّهِ یَسۡجُدُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَظِلَـٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ ﴾[15]
والكسر تحت النقطة تسليم لرب النقطة. وإسلام وسلامة لمن اهتدى. واستسلام بالقهر لمن أبى.
﴿أَفَغَیۡرَ دِینِ ٱللَّهِ یَبۡغُونَ وَلَهُۥۤ أَسۡلَمَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَإِلَیۡهِ یُرۡجَعُونَ﴾[16]
والكسر للباء انكسار المتوسّل لمن توسّل له، والمجرور لمن انجرّ إليه.
وليس الانجرار سوى جرف المحبة للمحب، وانجراف المحبوب لمن يحب.
ومن الجر هداية بعد ضلال، وانجذاب لحضرة الجلال.
بل قد يكون الجر قويا فينجر عنه انخلاع من الجسمية وفناء في الذات العلية. وفرار إلى الله من كل ما سواه.
﴿فَفِرُّوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۖ ﴾[17]
﴿بِـ﴾
الباء باب، ولكل أمر باب، ولكل بيت باب، ولكل باب حاجب، والفاتحة باب القرآن، والقرآن باب بيت الله المعمور، وباب رضوان العظيم الغفور، باب مفتاحه الشهادتان، وقام عليه نبي هو الأشرف بين أنبياء الله.
حاجب الباب جبريل، مبلّغا عن ربه الجليل.
والباء للجر، وكل الخلق جارّ ومجرور.
وللجر معان تضيق بها العبارة، وتتسع لها الإشارة.
وفي جرّها وسيلة جرّت ما خلفها، وجرَت خلف ما توسّلت به.
فالذي سمّى يجرّه سر الباء، والذي سُمّي به تنجر الباء خلف وسيلته.
وهي ابتداء في المنطوق، وبدأ في الملفوظ، وأولى في الجملة.
والباء تُتَّخذ لمعنى الوسيلة كقولك كتبت بالقلم وأخذت بيدي.
وما من وسيلة أعظم من اسم الله، فهو الوسيلة الأولى العظمى.
ثم تليه وسيلة أولى خلق الله بسر اسم الله، محمد بن عبد الله.
والباء مكسورة، لأن داخل الباب لن يدخله إلا منكسرا.
فهو كالدخول الذي أُمر به بنو إسرائيل لباب من أبواب الله: ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُوا۟ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةَ فَكُلُوا۟ مِنۡهَا حَیۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدࣰا وَٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡبَابَ سُجَّدࣰا وَقُولُوا۟ حِطَّةࣱ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَـٰیَـٰكُمۡۚ وَسَنَزِیدُ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾[18]
اما من أبى الدخول على العظيم منكسرا خاضعا، فسيطرده العظيم من رحمته، لأنه نازعه الكبرياء، وأبى الذل له، فأذله لكل شيء.
﴿فَسَجَدَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ` إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰۤ أَن یَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِینَ ` قَالَ یَـٰۤإِبۡلِیسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِینَ `قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَـٰلࣲ مِّنۡ حَمَإࣲ مَّسۡنُونࣲ ` قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِیمࣱ﴾[19]
فـ”من لم يدخل على الله منكسرا، كسره.
ومن لم يدخل على الله ذليلا، أذله.
من لم يقبل الذل لله، أذله الله لكل شيء.
ومن سجد ذلا لله، أذل له الله كل شيء”[20].
[1] ارجع إلى كتابينا: الحروف الروحانية، وكذلك المعاني اللطيفية للحروف والكلمات.
[3] الذاريات الآية ٤٩
[4] الرعد الآية ٣
[5] النجم الآية ٤٥
[6] النساء الآية ١٢٦
[7] الأنبياء ١٠٤
[8] لقمان الآية ٢٨
[9] طه الآية ٥
[10] الشورى الآية ١٧
[11] الرحمن الآية ٧
[12] الحديد الآية ٢٥
[13] الزمر الآية ٦٧
[14] إبراهيم الآية ٤٨
[15] الرعد الآية ١٥
[16] آل عمران ٨٣
[17] الذاريات الآية ٥٠
[18] البقرة الآية ٥٨
[19] الحجر الآية ٣٠-٣٤
[20] من كتابنا إشراقات الجزء الثاني.