3 دقائق للقراءة
القراءة عملية منطقية ترابطية بين قارئ ناظر مستبصر، ومقروء يحمل رموزه ومعانيه ومصطلاحته وقضاياه ومفاهيمه، كنهه ولونه وشكله ومحتواه، ظاهره وباطنه وجليّه وخفيّه ومشهديّه وملموسه ومحسوسه ومدروسه.
والصلة بين الطرفين: القارئ والمقروء. هي صلة محكومة بضوابط عقلانية ومنطقية، إن كنا نروم الجدوى والفهم. ودراسة واستقصاء واستجلاء بروية ومعادلات في الترابط الدلالي وحقيقة المعنى. أو هي عشوائية متخبّطة لنقص لدى القارئ، أو لانخرام في مكنون المقروء بين تزييف وخداع أو ضحالة وعبثية.
القارئ الجاهل بالمقروء هو كالبدائي الذي يحلل السحب والمطر والشمس: يراها آلهة تتصارع. ويرى الأرض مسطحا على قرن ثور (أمر لم تخرج منه البشرية إلا منذ حين في سجلّها العلمي المادي).
اما المقروء فكم يخادع وكم يخاتل، ولعلنا نذكر هايدغير ونصه الجميل عن البداهات الخادعة، وعن الوجود المزيف وما يثيره من قلق. فلكم نقرأ وجوها بريئة ونجدها تخفي ما لا يمكن أن نستقرأه، وكم نقرا أمورا ونفسّرها فلا يكون من الحقيقي في تفسيرنا إلى نزر قليل. علاقة الوهمي بالحقيقي والمزيف بالأصلي. تحتاج إلى البرهان والدليل والحجة والإثباتات. ولابد من قرائن تساعد على التفسير او على المعالجات التأويلية.
المدرسة التفكيكية لا تقر بوجود فهم لنص، بل كلها محاولات صناعية للفهم. والفهم ثمرة القراءة.
القراءة بمعناها الثقافي علاقة بين كتاب وقارئ، ولا يشترط ان يكون الكتاب سفرا ومجلدا بل حتى الحناء على كف صبية أو الوشم على خد جدّة والنقش على رخامة أو حتى النمنمات على سجاد فارسي أو الزخارف في طست وآنية من الفخار او فسيفساء أو حتى زركشة ثوب أو توشيحا في ذيل طاووس. ولكن إن سفّرنا الكتاب كان من الضروري أن نخلق مصفوفة إضافية للكثافة النصية والجدلية بين الرمزي الحرفي والكلماتي ومدلوله الصوري، وبين المعطى اللغوي القاعدي والنحوي والدلالي القطعي المنضبط بلغة ما لشعب من الشعوب وعصر من العصور وشخص من الشخوص إذ أن نفس اللغة صلصالية في تعاطيها بين شعب (أو قطر وجهة وفئة) وعصر وشخص، وسواه شعبا وعصرا وشخصا. على ما يكون من الاختلاف في الاستخدام والفهم والمفهوم. ثم ما تمتلك اللغة من مقدورات التخييل والتشبيه والتصوير والمحايثة وثورة المعنى والمبنى.
والقراءة الكلماتية مثاقفة بين الكاتب والمكتوب (القصدية والنصية والتنضيد والابداعية والايقاعية والبصمة الخاصة)، ثم قارئ الرسالة المكتوبة ومدى تحققها عنده وبلوغها المرام فيه. ثم الغائية مما تمت كتابته وطريقة الكتابة ولغتها وما للغة من كينونات حرفية وكلماتية وتصويرية وإيقاعية وجمالية وذوقية وفكرية. من نص في الفلسفة والحكمة إلى نص في التاريخ ونص في الحكاية والقصة ونص في الرسائل وصولا إلى قصيدة. كل ذلك مقروءات تحمل مضامين ولها مقاصد ومرامات. أمر ينطبق على اللوحة والصورة وعلى كل مشهد طبيعي وكوني وزمني، فمن هنا يأتي الاستقراء والاستبطان والتدبّر والاستشراف والشفافية الحسية والوعي الادراكي وما يسبر أغوار المشهدي والملمحي للوصول إلى المكمن الرافد لقضية أو الدال عليها أو الكاشف لها المعطي لمفاهيم ودلالات تصل إلى ما فوق المادي وما خلفه وما وراء الظاهراتية وإلى مستلزمات دلالية لها ما لها فكريا وحتى عقائديا رسم لها الانسان في كل فترة رسما واستشف منها معنى وللمعتقدين في موجد واحد مرامهم وفهمهم الدال حتميا على من يرومون رؤية دلائله ورسائله فيما يقرؤون فمن دلك الحرص على التفكر والنظر ومن ذلك دور الحواس وجسّها وحسّها والعقل ومنطقيته وتعامله مع البرهاني والقلب وذوقانيته والروح ومقارباتها التي تحتاج سلالم العقل لتصعد بفهم الانسان المادي الى فهم روحي اكمل واشمل ومن هنا كانت انطلاقة الفلسفة حبا للحكمة وصعودا الى معرفة الذات وتذكّرا وتساميا وسموا وفضيلة وقيمة وجمالية. وفي ذلك سكب سقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين ومن كانوا في مشربهم، أرواحهم وتأملوا وكتبوا وتفلسفوا.
التأمل باب عظيم للقراءة، إنه إصغاء لما يقوله الكون وإنصات لما يبوح به العالم.
والقراءة دالّة على مدلولات كثيرة، ولكن لا يمكن للقراء جميعا أن يلامسوا نفس المدلول، فعلى جدار قلعة مثلا تجد كتبا كتبها التاريخ وكتبتها امم وشعوب وجيوش وقادة. تتنوع الكتاب على صفحة الجدار بين أنامل عاشقة وطعنة محارب ورسم كاهن وعبقرية بنّاء، كل ذلك كتاب واحد في جدار قلعة قديم. لكن القراءة شتّى، فبين عين الخبير وعين الزائر العادي، وبين نظرة من ارتبط وجدانا وذاكرة، ونظرة عابر، بين كل ذلك تختلف القراءات وتتعدد، والمقروء واحد.
حتى نقرأ فلسفيا، علينا أن نكون قادرين على تجاوز التفسير والتأويل إلى تماهي بني القارئ والمقروء حيث يعيد القارئ تشكيل ما يقرأ سواء كان نظرة للكون او مطالعة لصفحة كتاب. حتى في قراءة لوحة راقصة أو لوحة زيتية، قصيدة أو أغنية أو حركة غصن وخفقة جناح، يمكن للفلسفة أن توجد نمطا مختلفا في قراءة كل ذلك. نمط يمنح الحيوية للمقروء والحياة للمعنى وروحا مختلفا للدال والمدلول وعمقا أكبر للقارئ.
فلسفة الفن، وفلسفة الحركة، وفلسفة الكتابة والفكر، وحتى فلسفة القصيدة والكلمة والحرف. مع فلسفات اللون والمعنى والصوت والصوتم. كل ذلك قراءات تستجلي الخبيء وتماحك الجريء وتماهي الكنه غوصا وانفلاتا.
الانفلات من ربقة النمط والغوص في عمق المكنون الفعلي والجوهري بعيدا عن القشريات والمتطفّل من حشو المعاني الزائدة، كل هذا شرطي ولزامي لقراءة فلسفية حقّة، ولفلسفة قراءة حقيقية.