كتاب تأملات فلسفية – اللوح الأول: في فلسفة المعنى

5 دقائق للقراءة

المعنى هو الكنه واللون الذهني لكلمة أو شيء، رابط بين الذهن من جهة، وكنه المسموع أو المقروء أو المرئي أو المتصوّر، ولكن المعنى لا يقوم في غياب اللفظ المعبر عن ذلك الكنه، ولا يقوم أيضا بغياب اللون الذهني، فالذي يفقد القدرة على التمييز اللوني الذهني يغيب عنه المعنى، ولكن اللفظ المعنوي أشسع من اللفظ اللغوي، فاللفظ اللغوي محدود مختلف، لكن المعنى شاسع مشترك، فالياباني والعربي والبابلي القديم حين يحسون بالخوف يتمثلون المعنى ذهنيا لديهم وينتقل حينها إلى الإحساس رغم أن كل واحد منهم لو عبر بلفظ لغوي لعبر بشكل مختلف عن الآخر، وهنالك أمور قد نحس معناها ونتمثله ولكن نعجز عن التعبير لفظيا عنه، ولذلك فالتخاطر الحسي والفكري أعظم من التعبير اللغوي وحينها يكون التخاطر بين الإنسان وروحه أو الطبيعة أو لوحة أو قصيدة أو شخص آخر بنظرة أو تفكير يلامس جوهر المعنى الذي يصعب التعبير عنه…
الإحساس المعنوي هو شبكة علاقات لون – ذهنية تتحول إلى دفق شعوري، فاللون الذهني للمعنى يتحول على كنه شعوري متدفق، ولكن الإحساس المعنوي ليس مرتبطا بالحواس بل يتجاوزها إلى ما فوق الحواس إلى حيث يكون الشعور المطلق روحيا وذاتيا وذهنيا أيضا، وهنا يكون المعنى الحسي جزءا من الإحساس المعنوي لأن المعنى الحسي مرتبط بالحواس أساسا.
تقوم نظم الذاكرة والألوان الذهنية للمعنى بترتيب المعاني والكينونات، فكل كنه وكل لون ذهني وكل معنى مرتبط بما وقع تسيله في الذهن وفي الذاكرة من ألوان ذهنية، ولذلك فإن الأمور الغريبة تدفع للهروب أي تعطي صدمة معنوية لأنه لا لون لها في الذهن وهكذا يكون نظام الإنكار أو نظام الصفاء ومحاولة الفهم وهي ليونة ذهنية مميزة أما العام فهو نظام إنكار وهروب من كل معنى لا يمكن إدراك كنه وهنا حدود كل ذهن وتختلف الحدود من ذهن إلى آخر فالطائرة لها لون ذهني معنوي عندنا اليوم ولكن لو رآها إنسان من العصر القديم لفر منها أو صعق، وما الصعق والإغماء إلا نظم لرد الفعل الذهني إزاء أمر أو شيء لم يتبين الذهن كنهه فصل الوعي هروبا منه وفصل الإحساس أيضا.
نظام الإنكار يقع أيضا في إيقاع ما لا يمكن تمييزه ذهنيا في فخ الوهم واللامعنى، فيقال هذا لا معنى له أو وهمي، الوهم له مبحثه الخاص لأنه نظام خطير جدا من الألوان الذهنية التي تخدع الذهن نفسه وتعطيه غير الكنه الحقيقي،فاللامعنى هو تغيير قصدي للكنه وإخفاء للون الذهني، محاولة لإنكار المعنى، فحتى اللامعنى له معنى،ولكن قد يستخدم الوهم كنظام معنوي اللامعنى بغاية تشويه لون المعنى، وهنا مبحث آخر أيضا يخص أمور من العقيدة والحقيقة والقيم، فيكون اللامعنى هو معنى مجرد لمحاولة طمس المعنى، تماما مثلما أن العدم إخفاء للوجود وليس سابقا له، والصفر هو إخفاء للواحد وليس سابقا له لأن الصفر هو الواحد حين يسحب منه الواحد(0=1-1) ولذلك تجد في الكهرباء والإعلامية واحد – صفر (1-0) لا صفر –واحد (0-1) فلا يمكن أن يكون الوجود من محض العدم فلابد من موجد له يعطيه الوجود ولابد أنه مر بمرحلة وجود نوعي ثم تحول إلى عدم وجودي ليتحول إلى وجود آخر بمعنى مختلف، وكذلك لا يمكن أن يكون الصفر سابقا للواحد بل هو ناتج له ثم يكون الواحد وبعده الأرقام كلها، وهنا فلسفة الخلق، وفلسفة الإيمان، الواحد الأول (الخالق، الموجد) ثم لحظة البدء أو الصفر ثم الوجود وتتابعاته الرقمية والتكوينية ويصح الأمر في الكيمياء والرياضيات واللغة وكل شيء، وهذا من فلسفة الكون وفلسفة التكوين.
أما اللاقيمة فهي إخفاء قصدي للقيمة، أي تغيب لمعنى القيمة الحقيقية، ويمكن لنظام الوهم أن ينتج قيما مضادة ويعطيها لونا معنويا وكنها ذهنيا وهنا فلسفة الأخلاق والقيم بين الثوابت الحقيقية والمتحولات الوهمية فالخير قيمة ثابته حقيقة والشر متحول وهمي له تجسد فعلي بمن يقع في بوتقته ويتلون ذهنه وإحساسه به وهكذا…. حتى الحقيقة تخضع لذات النظام من حيث أنها معنى وقيمة في نفس الوقت، فمن قال لا حقيقة، فهو يعطي حقيقة من قِبله، أي ما يراه غير حقيقي، أو أنه يتبع فكرة أن الحقيقة نسبية من شخص إلى آخر، مما سمي بالفلسفة العندية أي الحقيقة عندك تختلف عن الحقيقة عندي، أمر روج له السفسطائيون في محاربة القيم والحقائق الثابتة، ولازال يروّج له خلفاؤهم، والقصد نسف الحقائق الفعلية والثوابت والقيم، وليس إعطاء معنى الحقيقة التمثلية، لأن الحقيقة التمثلية تختلف من شخص لآخر وفق التمثل الذهني للكنه المعنوي لتلك الحقيقة ومقدرة الذهن على الرسم اللوني والحسي والمعنوي لتلك الحقيقة، فالجمال تمثليا يختلف عن الجمال موضوعيا، وهنا فلسفة الجمال، والتياران الذاتي والموضوعي في الجمال، الذاتي يقول أن الجمال مرتبط بتمثل الذات له، والموضوعي يقول أن الجمال موجود في الموضوع نفسه، ولنا في تأملاتنا في فلسفة الجمال رأي وفهم ومعنى يجمع التيارين ويضيف لهما، وكذلك الزمن تمثليا يختلف عن الزمن فعليا، فالزمن الفعلي ثابت بالثواني والدقائق والتجزيئات الأصغر والتكوينات الأكبر، لكن الزمن تمثليا يختلف من ذهن لآخر ومن إدراك لآخر فالزمن التمثلي المدرك لدى الذبابة أسرع من الزمن التمثلي المدرك لدى الإنسان، وتمثلك للزمن حين تكون في لحظة صفاء وحب غير تمثلك له حين تكون في لحظة حزن فالأول سريع والثاني ثقيل وهو تمثل لزمن واحد وهنا فلسفة الزمن، والأمر ذاته في فلسفة الأسماء، فالاسم هو كنه معنوي مرتبط بمعنى ذهني متصور أو لون لفظي ذهني مع لفظ لغوي يعبّر عن موجود أو مجرد ويختلف باختلاف اللغة كما يختلف باختلاف الذهن فاسم النهر مرتبط بحقيقة النهر كموجود وباللفظ الذهني أو اللون الذهني المشكل للنهر، ولكن حين نقول نهر فنحن ضمن اللفظ العربي، في حين اللغات الأخرى لديه ألفاظ أخرى، كما أن النهر في ذهن طفل صغير وشخص لم ير النهر في حياته وشخص ولد بجانب النهر وآخر غرق في النهر ونجا منه يختلف باختلاف كل ذهن وكل تمثل ذهني، أما اللاإسم هو اسم، فيمكن أن تسمي شخصا “بلا اسم”، فهو اسمه، أو يكون اللاإسم تعبيرا عن معنى مجرد لا يمكن للغة أن تسميه، لكن يكون له اسم ذهني ومعنوي يستشعر ويتمثل دون أن يسمى وهنا كما قلنا حدود الفظ اللغوي ومجال اللفظ الذهني مما نبحثه في فلسفة اللغة…
العقيدة أيضا لها نفس النظام من حيث هي معنى وحقيقة وتمثل، هي إيمان بقيمة تنطبع في الذهن ولكنها مرتبطة أساسا بالموجد أو بمن يُعتقد انه الموجد بأمر روحي صرف لا يخلو من إنسان مطلقا، فحتى اللاعقيدة هي عقيدة، ومن قال لا يعتقد قلنا له: ” هل تعتقد انك لا تعتقد في أي معتقد”، فإن كان يعتقد أنه لا يعتقد في أي معتقَد فهو يعتقد في اللامعتقد وهو بالتالي يعتقد، وإن كان لا يعتقد انه لا يعتقد في أي معتقد فهو معتقد في المعتقد، وهو أيضا معتقد، أمر سيربك حتما الملاحدة لأنهم سيعون أن لا فرارا من الثوابت الفعلية حتى عبر تمثل ضدها،فلا مفر من المعنى حتى عبر ادعاء اللامعنى، لكنها أمور يحاول من خلالها الذهن لدى بعض الأشخاص الهروب من قوانين مفروضة عليه، لان المعنى والاسم والقيمة والعقيدة قوانين إلزامية، ولكن اللامعنى واللاعقيدة واللاحقيقة هي في تمظهرها الفعلي مفاهيم تعبر عن رؤية محددة محكومة بمعاني ومسببات ودوافع، وهنا فلسفة المفهوم وفلسفة الرؤية.
كل هذا ضمن فلسفة المعنى كجذر لما تبقى، وإنك حين تقرا هذه الكلمات فاعلم أنها تعبر عن فهمي ورؤيتي كذات وذهن وكإنسان يحمل قيما ورؤى، هي ما أبصرته خلال تأملاتي في كل شيء وفي اللاشيء، في الموجود والمجرد والكلي والنسبي والثابت والمتحول، وللذهن المتحرر أن يتأمل كل ذلك في لحظة ذهنية، لكنه سيستغرق زمنا طويلا ليعبر عن تلك الألفاظ الذهنية بألفاظ لغوية وهذا ما سأحاوله وأنا ارقص في أغلال اللغة، ولا أطلب منك سوى التأمل في التأملات فعساك تدرك من الفلسفة ومفاهيمها وما سأتأمله من خلالها من مفاهيم ومسائل ما لم تكن ترى لونه وكنهه في ذهنك، إنه المعنى المحض لكل حرف أكتبه….

مقالات ذات صلة

صمت وكلام
حين تقرر الصمت، لكن قلبك يرفض أن يصمت.حديث القلب حديث قلق متوجس، مشحون بالعاطفة.أما حديث العقل فرصين، وفيه الكثير مما يمكن أن يترجم بلغة...
3 دقائق للقراءة
بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء
من كتابي: تأملات وجودية بين المادية العمياء والروحانية الجوفاء ولقد اتفقت الانسانية بجميع حضاراتها، وعلى مدى تاريخها، واختلاف أديانها، أن الانسان روح وجسد، معنى...
3 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
عز (من كتاب فن السعادة)
ما هو العز؟وما معنى “عزيز القوم”؟وماذا تعني الكلمة النبوية العظيمة: ارحموا عزيز قوم ذل. والعز لغة ضد الذل. العز سؤدد ومجد.ورجل عزيز هو رجل...
2 دقائق للقراءة
خيوط متشابكة
كلما ظننتَ أن الحرب انتهت، ستجد أنها تجددت بشكل لا تتوقعه. العالم البشري عالم صراع وحروب، تاريخه يشهد. وما رسمه التاريخ ليس سوى تطبيق...
< 1 دقيقة للقراءة
مستقبل الفلسفة…بين سموم الواقع…وسم سقراط
هل للفلسفة مستقبل في هذا العالم “الغثائي” الذي يمضي في نسق سريع نحو أقصى درجات ذكاء الآلة وأقصى درجات الغباء البشري، في تفاعل بينهما،...
2 دقائق للقراءة
عصا موسى: بين عين النقص وعين الكمال
كان موسى يعرف العصا، ولم يكن يعرفها. لقد صحبته عشر سنين يرعى الأغنام فيهش بها على غنمه، ولم يكن يدري سرّها. وكان يصحب نفسه...
4 دقائق للقراءة
إبليس..ذلك العالم الذليل (من كتاب تأملات قرآنية)
مما لا شك فيه أن إبليس من العارفين الكبار، بل هو أعرف الجن حتى بلغ مراتب الملائكة، وهو الذي شهِد الملأ الأعلى وكلّم الحضرة...
2 دقائق للقراءة
في الكاتب والكتاب
الكتاب كالصّاحب، عليك أن تحسن اختياره، فهو سيصحبك في دروب الفكر والتأمل، أو سيودي بك إلى المهالك، وكما أنّه ليس أضر من الصاحب السوء،...
2 دقائق للقراءة
تأملات في الدال والمدلول وروح اللغة
كل شيء معقد حين تجهله. وكل شيء بسيط حين تعرفه. وأنت تجلس بجانب صيني يمازح صديقه، سيكون كلامه معقدا، وكذلك كلامك حين يسمعه، ولو...
2 دقائق للقراءة