3 دقائق للقراءة
اللفظ هو لون المعنى، تعبير عنه في الذهن أو بالتعبير، واللفظ الذهني أكثر نقاء وصفاء من اللفظ القولي، لأن اللفظ الذهني قد يتجاوز مقدور اللفظ اللغوي، في حين أن اللفظ اللغوي نظام صواتم (وحدات صوتية) مكونة لحروف تشكل كلمات أو لرموز في اللغات التي لا تستخدم الحروف، وإن للمعنى نظما غير لفظية للتعبير فالحركة والإيماء والنظرة والرسم كلها تعبيرات عن معان معينة وهي انعكاسات خاضعة للفظ الذهني ولعوالم المعنى والروح والوجدان، فهي ألفاظ ذهنية عبرت عالم الذهن إلى العالم الخارجي ولم تستخدم لفظا لغويا ولكنها خاطبت الذهن الآخر مباشرة بنظرة وإيماءة وحركة جسد أو رقصة أو رسم، فينتقل المعنى وينطبع في الذهن والوجدان بشكل يخضع للترجمة الذهنية التي تختلف بين ذهن وآخر، وللنظم التفاعلية للروح والوجدان، في حين أن الموسيقى هي تعبير معنوي مجرد يرتبط بالوجدان مباشرة ويحاور الروح عبر ألفاظ موسيقية يعمل الذهن على فهمها إن كان عالما بالموسيقى وبالنوتة الخاصة بها، أو يستشعر معناها إن كان فقط مستمعا دون علم بالنوتات الموسيقية، فالموسيقى لغة عالمية تعكس سلامة الوجدان وتؤثر فيه وتتفاعل معه، إنها تعبير عن معان صوتية موجودة سلفا في العالم الخارجي وموجودة أيضا في الوجدان الإنساني وما الصوت الموسيقي إلا حالة للفظ لم تصغها اللغة الحرفية ولكنها بين الذهني المجرد والتعبيري المطلق.
أما الشعر والأدب فهي لغة يلفظها الذهن عبر القلم لتتحول بالإلقاء أو القراءة إلى ملفوظ قولي ومدرك لغوي له بدوره ارتباطات تفاعلية روحا ووجدانا وله ترجمات ذهنية تختلف من متلق إلى آخر.
وقد تساءل الفلاسفة عن اللفظ كثيرا، وهل هو سابق للمعنى أم المعنى سابق له.
المعنى فيما أراه سابق للفظ، لأن المعنى أصلي واللفظ تصوري وتعبيري، ولا يمكن أن نتصور تصورا لمعنى غير موجود، أو يكون اللفظ محض خبال، فالمعنى استدعى اللفظ ليتجلى للذهن أو للعالم، فأنت حين يطرقك معنى روحي شفاف جدا تستدعي لفظا ذهنيا يلوّن لك المعنى بينك وبين نفسك، فإن لم تجد حاولت أن تعطي لفظا يقربك من ذلك المعنى الذهني ويوصل لفظ ذهنك إلى ملفوظ قولك الباطني ومناجاتك الداخلية، وحين تريد التعبير عن ذلك لسواك ونقل دواخلك للعالم الخارجي تستعدي لفظا مفهوما ضمن قانون لغوي محدد لتعبر به، لأنك إن استدعيت لفظا غير مفهوم فلن تحقق التواصل ولن تبلّغ المعنى، وهنا دور اللسان وقدرة البيان.
والمعنى دال على أمرين: إما موجِد لطيف خفي عن مقدورات الإبصار متجل للاستبصار فنحاول أن نعبّر عن معنى يقيننا به بحدود أذهاننا وارتباطاتها الروحية والقلبية، وهنا يكون اللفظ نورانيا شفافا لطيفا عادة نشعر بصعوبة تحويله من لفظ ذهني إلى لفظ لغوي، ونحتاج رقيا ذهنيا وصفاء روحيا كبيرين لنعبّر عن ذلك دون الوقوع في فخ اللفظ الذي لا يفهمه الآخرون.
ولفظ دال على موجَد والموجَد صنفان:
*صنف يغيب عن الأبصار لأنه من غير عالم المادة، وهو كوننا الداخلي وكون أرواحنا، والعوالم اللطيفة التي تحيط بنا، والتي قد نحس منها بأمور تعجز حتى أذهاننا عن رسم لون لها وتشكيل لفظ ذهني يحددها، حتى أحلامنا أحيانا ما تغدو انعكاسا لحنيننا لنقاء تلك العوالم وخاصة أحلام الطفولة البكر، وقد كان الفلاسفة والصوفيون والعارفون والمتأملون كثيرا ما يحكون عن أحلامهم ورؤاهم وإشراقات أرواحهم وعن أحوالهم فيها ولكن تعجزهم ألفاظ اللغة، ولابد من الفصل بين هذا وبين التوهمات لأن عوالم الوهم ودوائره السفلية مخادعة تضيّع الإنسان في ترهات لا معنى حقيقي لها وحين يحاول أن يجعل لها معنى حقيقي فإنه يستخدم لفظا زئبقيا لا حقيقة لمعناه ولا جوهر لفحواه إنما هو ما أسميه الخدع اللفظية ضمن الفخ الوهمي للمعاني السلبية الخادعة.
*وصنف نراه ونتفاعل معه ونحاول فهمه، هو عالمنا الخارجي ومحيطنا والكون كله، ولكن هل ألفاظنا التي عبرنا به عن معاني ما نراه من ابتكارنا؟؟
أم أنها مثل المعنى “معطى سابق”، موجَد بقدرة موجِد؟؟؟
إني على يقين أن اللفظ الأول الذي عبّر عن المعنى الأول هو من ذات روح المعنى، أي أنه موجَد مخلوق، وأؤمن أن الإنسان الأول تلقى قدرته اللفظية في ذهنه ليتمثل المعنى الأول وهو كونه قد وجد وجاء للعالم ثم ليتمثل معنى الموجِد والموجودات بأصنافها، هي لحظة وعي معنوي أولى وحين حوّل اللفظ الذهني إلى لفظ معنوي ونطق به، فإنه لم يبتكر بل عبّر عن مخزون فطري أوجده له خالقه، والطفل بعد ذلك حين يعبّر بأول لفظ لغوي عن معنى ذهني فهو يقول “بابا” أو “ماما”، ولاحظ أنها بكل اللغات ذات الكلمة تقريبا مع اختلافات بسيطة، إنها من ذاكرة أول طفل ولد في الأرض من نسل ذلك الإنسان الأول الذي خُلق في السماء، وهي كلمات من تلك اللغة الأولى التي علمها الخالق وأودعها في مخلوقه، أما ما يتطور من الألفاظ وفق تطور المجتمعات البشرية ووفق تطور الموجودات والموجدات وما يصنع منها فإنها قصة طويلة جدا عن تطور الإنسان وتكون المجتمعات وتفاعلها فيما بينها مما يجعل اللفظ كائنا حيا يتطور بتطور الأذهان ويتطور أيضا بتطور اللغة نفسها وتطور نظمها ومراحلها.