3 دقائق للقراءة
الوطن قيم وأرض وتاريخ، والمجتمع جماعة ربطتها أرض مشتركة ومسار زمني في قدر من الاكتفاء.
الذي يسكن الوطن على الوطن أيضا ان يسكنه، أو لا يكون وطنيّا ولا مواطنا حقيقيا.
قد تتعرض الأوطان للاستيطان، والمستوطن سيسعى لضرب كل ما هو وطني وخلق وطن بديل، وحين يكون مواطنو ذلك الوطن ضعفاء أو مسلوبي إرادة أو نائمين، فسوف يضمحلون بعد زمن، ليرسم التاريخ لنفس الأرض ملامح وطن أخرى بمواطنين آخرين، وقد يكون التفاعل الايجابي بين كل الشعوب التي تستوطن نفس الأرض- الوطن، فتكون حضارة ثرية، والتاريخ شاهد على كثير من هذا، بل لا تكاد تخلو أرض من تفاعل شعوب وأمم وقبائل وثقافات.
المواطنة مشاركة للوطن وتفاعل معه ومع ساكنيه، فيكون على المواطن أن يتفاعل مع المواطن لنفع الوطن وحمايته وتطويره، وينبني النسق الاجتماعي على تفاضلية في المقام، لكن ذلك عليه أن لا يؤثر في قيمة مواطن أمام مواطن آخر، وتلك من مبادئ فلسفة الأنوار ومن أسس المساواة والعدالة الاجتماعية، ليكون العقد الاجتماعي رابطا بين المواطنين جميعا.
الوطنية حسّ، وفي ما يلمس علم نفس المجتمع مباحث وكليّات حول ما يجعل المواطن وطنيا والإنسان اجتماعيا مدنيا بالطبع.
الاحساس بالوطنية علامة حياة للمواطن، فمن لا يستشعرها في حال السلم بناء وفي حال الحرب دفاعا وفي كل الأحوال ضميرا نابضا فقدْ فَقَدَ روح وطنيته وضيّع صلته بالوطن. لكن لم يخل وطن من أبناء له فقدوا تلك الروح فخانوا وهانوا وأهانوا اوطانهم، بل لعلّهم خدموا العدوّ وهدموا البناء وباعوا القضيّة وصاروا أوراما في جسد الوطن.
السؤال الذي يخامر ذي النظر: ما الذي يحدث للمواطن حين يضمُر شعوره بالمواطنة، وما أثر ذلك على وطنيّته؟
ليس من مشمولات السؤال من لا مبرر لهم في ضعف وطنيتهم غير أنهم استلذوا ذلك لمصلحة راموها أو عمى فيهم وتعصب أهواء وانتماء لما هو في اعينهم أعظم من أوطانهم أكان مصلحة ذات وتصيّد لذّات، أو روابط معتقد واواصر انتماء، أو ربّما لمجرد جبلّة الخيانة، ولكن السؤال يشمل فئة ممن لم يجدوا في أكف الوطن خبزا ولا في كأسه ماء، ولم يجدوا منه الحضن في الوحدة والأنس في الوحشة والدفء في عتمة باردة، ورأوه يحرمهم ويعطي سواهم، يظلمهم ويميل لغيرهم، يخنقهم فيه ويغرّبهم عنه وهم في أكنافه، حتى تصير الأرض سجنا كبيرا حدّه الأفق.
من ذاق مرار ذلك ربما مرضت نفسه وغلب يأسه، فعمد إلى بحر يخرجه من ضيق ما هو فيه، فتصير فوبيا المكان والرغبة في الرحيل مهما كانت الطريقة نمطا، وللنمط مسلوبون يلقون أنفسهم للموت في زورق خلف حلم ممكن على استحالته، هربا من حلم مستحيل على إمكانه. أو ربّما غاب عنه معنى وجوده، ولم يعد له أمل في عطف الوطن وجوده، فبحث عن المعنى في اللامعنى، وعن منطق في ثنايا اللامنطق، فيكون قتل الوطن ونزع الوطنية أثرا لضمور المواطنة، وتضمحل بقايا الحنين وملامح الذاكرة وتنفرط عرى الروابط مع الطفولة ومرابع الصبا ووجه الأم ونكهة الطعام في البيت الأبوي والطريق إلى المدرسة ووصايا المعلم والاستاذ ونبل القدوة، وتحل قدوة أخرى مكانها، ذاكرة جديدة واواصر جديدة مع الغرباء الذين يصيرون أحبابا، وتمحّي صور الأحباب الذين يغدون اغرابا، ثم يرجع ذلك “المواطن” من رحلة العقل والقلب والقدم آلة تدمير لوطنه وتخريب لكل الأوطان، سيما وقد رسموا له أن الرب مدّ له يده واستنقذه، وإلى جنّة يحمله من سيقتل كل شيء يحبه، فيقتل المواطن وطنه بيده ثم يقتل نفسه بيده أيضا.
ماذا تفعل الحكمة هنا، وماذا على الفلسفة أن تقول، وهي تنظر في فوضى الخلق، وتخلّق الفوضى؟
إن الوطنية مصباح، والمواطنة زجاجة، والوطن مشكاة، وحين تنكسر الزجاجة، ينطفئ المصباح، وتظلم المشكاة. وليس غير مستصبر بيده الحُكم، وبصير بيده الحكمة، يرسمان سبيلا لتُحمى الجذوة، وتُحفظ الزجاجة، وتضيء المشكاة.