كتاب حكايات الحروف (14): الصاد

3 دقائق للقراءة

الصبر والصمت والصدق والصوت وصلصال آدم…ليس مثل الصاد اختزالا وكثافة وإيجازا ودقة.ورصانة أيضا…
صعوبة الصاد تكمن في طبيعته القوية…إنه الصاخة والصرصر تقتلع النخل وتقضي على العصاة. وهو العاصفة تعصف في ليل صر…وإصرار الصمود وصلابة الصخر الصوان… وهو العصي على كل قيد يقتص الأثر ويقص القَصص الحق ويمضي مع صاحب العصا إذ ارتد مع فتاه على أثرهما قصصا. لم يقبل يوما برقابة المقص. ومع توأمه السين يتناص ويتراص..صنوان كصوت واحد: فالسبيل السوي هو الصراط المستقيم. والقصاص حساب حق. والرسالة نصّ. والنصّ سلسلة من الكلمات. وعلى صفحات الدهر رسما الصور وصوّرا سفر الحياة في سِفر من قصص لا تنسى. يعصيه النسيان مرارا. يتناسى السين ويعشق الصين وأمجاد مقاتلي الشاولين. ويحب كتاب فن الحرب، يتخاصم مع السين دائما على اسم مؤلفة ضمن ترجمته العربية: سن تزو..أو صن تزو..ثم اتفقا على الاسمين لمسمى واحد. تبتسم اللغة الصينية…
وحين نرتل الفاتحة…يبتهج قلب السين ويغتاظ الصاد من منافسة توأمه المستمر له…اهدنا الصراط المستقيم…وتقرأ أيضا: اهدنا السراط المستقيم..إنهما من أجمل توائم اللغة وأكثرها تنافسا.
على مقربة من الصاد يجلس طيفان: لص وصعلوك…يتملّصان من صفحة إلى صفحة…وفي صفحات الصحراء يكتبان قصصا كثيرة. ..وخلف مصائد الصيادين ومصائب الدهر يصطف مع الصعاليك ولهم معهم قصص…ولسوف يقتص مع الشنفرى…ويختبئ خلف كثبان الليل مع عصابات ترتعد منها الفرائص..ربما يكون في عُصبة الأسد الرهيص وقتاله الشرس ضدّ عنترة..أو لعلّه يحل في البوادي مع الأصمعي يحفظ القصائد ويتقن النحو والصرف ويبحث عن الغريب من كلام العرب..أو يقتنص الفرصة في كل قصة عشق يبحث عن صدق العاشق وصفاء قلب المعشوق..ولعله يفجأ أبا جعفر المنصور بـ”بصوت صفير البلبل”..فيبهت الخليفة والغلام والجارية وتخرص الذاكرة التي تحفظ من سماع ومن سماعين ومن ثلاثة..هو الأصمعي يقتص للشعراء…
لم يكن يوما أصما…ولا صمت عن كلمة حق…قصصه كثيرة وكذلك غصصه..ما ينغص عليه صفوه حقا رصاصة غدر في ظهر بطل…وقناص بارد برصاص ناري…
والصاد حرف ذو صيت وصفات…متقمص… ربما وجدته في صواني من الفخار تحكي قصص البونيين والفينقيين.. أو رقص الأغصان عند الأصيل..ولعلك تبصره يستمتع بالصيد ويلتصق بسرعة فهد قناص…أو يجلس تحت صفصافة أو قرب شجرة صبّار. أو يأخذ من شجر الصمغ العربي بأرض السودان ما يصرف عنه الداء ويصفي جسمه.. ..ولربما وجدته في صالونات الرسم..يتقمص لونا أو لوحة…أو شخصا في قصة أو رواية…أو شخصيات مسلسل…ولعلك تجده فنانا أمام مصدح أو ممثلا على منصة مسرح…ربما صحفيا يستقصي خبرا أو مصورا يقتنص صورة…أو نصا في إحدى الصحف..
هو بحق حرف قوي الشخصية… عميق الغوص …رصين صامد…لكنه قد يترنح من هول الصدمة…من أثر الصفعة…يصطدم بصد أو يتصادم مع حرف آخر…يتصلّب أو يتصبب حيرة من قصم مصيبة…لكنه لا يقبل أن يحبس في قفص، أن يحشر تحت الصفر…أو يهوي في قاع صفصف…

يتفاعل مع العناصر فهو العنصر في العنصر ماء وترابا أو نارا وهواء يستخلص سر خصائصها يختص بعلمها يتخصص في أبوابها…ولكي يتحقق قصده لابد له من همزة وصل…كم يعجبه وصال بين حبيبين أو أن يصل القلب ويتصل..قد جال الصاد وصال..واستعصى عن الحصر..فلتعقد معه الصلح عساك تلامس بعض الصحة…وتحافظ على الصحة أيضا…

حين تتأمل أصابع يديك انتبه للبنصر فهو صديق الصاد…وإذا رأيت عاصفة تقصم غصنا فاعمل أن الصاد صديق القاصم والمقصوم…ولو أنك قصصت على صديق قصة ولم يصدّقها فتأكد أن الصاد يصدّق…ولو أنك تتأمل في الصدفة ستراه وتعلم أنه يقصد ما خلف الصُّدف..حتى الصَّدف ستبصره فيه..وسترى الصاد في نص وقصيدة وصحيفة.. يصدع أو يصمت أو يصبو..وفي خد صبية أو عيني صبي ستراه الصادح بالحب…والصادي في صحاريه…حرف لا يصدأ أبدا…يختار الأصلح ينصح يصدقك النصح…صباحا سيجدد عهده مع الصبابة لا صبوة تخبو في قلبه…
وسيصفح عن غصة قصة عشق لم تخلص…يعلمك الصفح وصبر جميل الروح…ويصعد في صعد رجال الله..يفحص إخلاصه في حضرة الصالحين…
والصاد صنديد…ترتعد فرائصه إذ يذكر صرختها: وامعتصماه..ومع المعتصم سيعصف بالغاشم…ويسكن كلما سمع تلاوة عبد الصمد…يعتصم بحبل الله ولا يعصيه.. يتصفح كتب الأمجاد ليبصر صفوة الناس صحابة خير الناس ويستبشر بالصحبة مع الصديق في هجرة حق ويرى الله يمحّص أهل الصبر ويبشر الصابرين.. يستجلي ببصيرته فوق ما يرى البصر وللبصر مع الصاد صفاء الصوفي وصدق الصاحب..وهنالك إذ يحمي وطيس الحرب سيسمع صهيلا وصليلا يمتطي صهوات الخيل وصهوة مجد لا يفنى…يتأمل ما يحصل يبحث عن صبر أصيل وأصالة أصل وحقيقة وصل موصول بالله…لاشيء بقلبه أخلص من صلة الرحم وتواصل صوم صياما وقياما، وصلاة للبارئ جعل القسطاس وهدى لصراط الحق وخص بسره المخلَصين ونجا بخلاصه المخلصِين…وينصرهم في الدنيا ويوم الفصل… إذ جاء الصمد وملائكة الصمد صفا صفا…

سيتلو الصحف الأولى…ويستجلي أنوار المصحف…يقرأ بخشوع من الصافات إلى العصر…منشرح الصدر بسورة ص فخره على الكلمات…..يرتّل آيات الإخلاص..يمضي مع لوط لا يلتفت أليس الصبح بقريب…ويراها بين الصفا والمروى…يصدّق آية يوسف إخلاصا وخلاصا ..ويبتهج للبصر يعود إلى يعقوب إذ يلقون عليه القميص… ويتلو القصص يرافق موسى ويرى ابن الصدّيقة يشفي الأبرص والأكمه بالإذن المخصوص.. ويصلي على من صلى الله عليه وسلّم…ويسلم لمن إليه المصير…

مقالات ذات صلة

طفل وصورة
كان طفلا في مدرسة لها قسمان، سورها من شجر عال متكاثف له شوك أبيض طويل. يلبس صندلا من البلاستك ذي النتوءات التي كثيرا ما...
4 دقائق للقراءة
صوت لا يخبو ونبض لا يموت
وتبقى الكلمة…موقفا وروحا ونبضا لا يموت.كثيرا ما يُظلم الشعراء، وكثيرا ما تجد القصائد الجميلة نفسها سجينة في زمن يطغى فيه الابتذال وتسيطر عليه الرداءة.وكثيرا...
< 1 دقيقة للقراءة
لقاء مع العملاق
لقاء جديد مع العملاق، صديقي الفنان الكبير لطفي بوشناق، مناضل بالفن، مناصر للقضية، موغل في حب الوطن، وفي العروبة، وفي حب فلسطين.فنان من زمن...
< 1 دقيقة للقراءة
زيتونة
اجلس تحت شجرة زيتون اتنسم نسائمها البارده واتنعم بظلها الوارف واستمع لحفيف الريح على اغصانها يعلو كانه العاصفه ثم يخفت حتى لا يكاد يسمع...
< 1 دقيقة للقراءة
رسالة إلى الذين يعرفون أنفسهم
واجهت في حياتي أعداء كثرا.واجهتهم يافعا موهوبا، فكرهوه حسدا.وشابا قويا طموحا، فازدادوا كمدا.وأواجههم اليوم وقد بلغتُ أشدِّي، فلم يفز منهم أحد علي أبدا.صحيح أن...
2 دقائق للقراءة
في فلسفة الوجع
حياتنا قصة مكتوبة في لوح القدر، ونحن نقرؤها بتنفيذ ما فيها، ونتكشف كل يوم ورقة من ورقاتها، فصلا من فصولها، حدثا من احداثها…ونبقى في...
2 دقائق للقراءة
تحية لتلاميذي
تلاميذي هم أبنائي، نمور علمتهم ودربتهم ومنحتهم ثمار عذابات عمري وخلاصة شقاء سنوات التدريب القاسي والبلاء المر.وفي مدرستي يكون التعليم في الحال والمقال، في...
< 1 دقيقة للقراءة
في معنى كلمة مولى
ذكر أحد الأحبة عن كلمة “مولى”، أن المولى هو الله عز وجل، وليس الإنسان مولى لأحد.وهذا فهم ضمن معنى الربوبية الإلهية حصرا، لكن للألفاظ...
2 دقائق للقراءة
استقلال وشعر
الشعر استقلال للغة، وتحرر للمعاني، وتحرير للصور من استعمار النمط وسيطرة القوالب.وعبث جميل بحجارة الأفكار، وطيران باجنحة الخيال في آفاق الممكن والمستحيل.وبين العشرين واليوم...
< 1 دقيقة للقراءة
يابا العمدة
منذ الصبا كنت اتابع واحب المسلسلات المصرية، وكنت مغرما باللهجة الصعيدية، وبمشاهد بقيت راسخة في ذهني.ومن الشخصيات التي كنت احبها شخصية “العمدة”، ومشهد الغفير...
< 1 دقيقة للقراءة