كتاب حكايات الحروف (2): الباء

2 دقائق للقراءة

الباء

في البداية لماذا لم تبدأ بي، سألني بغضب وعتب. يشترك مع الهاء في الهيبة ويضحك حتى ينقلب على ظهر الخط كلما تذكر لقاءه الأول مع الدال: دب، حيوان جميل ان كان باندا، أو متوحشا يعشق العسل. لم يهدأ للدال بال حتى فرّق بينهما الراء وحلّ الخلاف فكان الدرب. دبّ على درب. أمر يدبّ في الباء بهجة ويمنحه بهاء ويفتح له بهو الكلمات.
لكن الراء لم يفعل خيرا ككل مرة، فحين عانق الباء الحاء كوّنا أجمل معنى وأرقى مبنى: حب…يا إلهي، يقسم للقلم وهو يجلس على نقطة اعترافه: كم قصة وكم قصيدة وكم كلمة وكم لقاء وكم فراقا. الحب…ليت الراء لم تكن بتلك القسوة حين شتت شمل المحبين وأعلنت الحرب.
والباء حنون وأمين: بيت يحميك من البرد. باب ينفتح لك بكل أمل. أب يحنو عليك. وربّ يربيك ويحبّك. وغدا تجد حبيبة وابنا وبنتا. للباء كرم مغدق. الكتب والكتابة والكتاب المسطور قدرا مكتوبا وقضاء محسوبا. والحساب والحسبان والحسبة. وحتى الحاسوب. انه حرف بدوي جدا. وله مع الأدب وشائج ومع التـأدب صلة. وعلى اللوح يخط مع الأطفال وهو ينظر من طرف خفي إلى المؤدب: ألف…باء….
البسمة باب آخر له. والبسملة تريح قلبه، وباء الجر تجرّه نحو النحو والإعراب والصرف. وتصرف عنه بؤس المعاني المركّبة وتركبه مركبا من براءة وتنزع عن روحه الكآبة. لكنّه يشعر بالدوار كلما تذكّر “حتى”، ففي عقل سيبويه رحلة ومتاهات ومبتدأ وخبر.
الباء يمسك ضفيرة البنت ويبني قصره على رمل البدايات. يبتغي على البحر معلّما يبصّره بما لم يكن يبصر. وله في البصر والبصيرة سبب يتبعه. ومع الذي أتبع سببا يتّبع البيّنة الكبرى. في أشرف ما كتب اللوح كتابا من عند الوهاب. للبارئ ما برأ وللكبير المتكبر ما بسط. وللباء من كل ذلك نصيب. وله في بدر غزوة بدء. وفي البشرى نبوءة خير. في النبأ يقين. خبّأ في أهدابه أسرارا البعث وبعث بروحه تستبق الباطل كي يزهق تسبقه إلى مرمى الحق.
للصبر يبادر في كبوة من كبّر كي ينهض يبني بالصبر البنيان ويكبر حلمه يخطر في باله كل بوادر أمل عذب. لعذابه معنى ولكبريائه معنى ويكابر بوحه. في تربته الأولى عناصره تراب ولهيب ورياح تعصف وتهب هبوب البهجة في قلب ملاق لحبيبه. والماء الباقي بوتقة لحياة البر وما فيه وبوابة بحر لجي يتبتّل للجبار ويسأل ذا الجبروت الفضل.
للباء بشائره الأخرى: سبّح لله. وسبَح بيمّ البدء. بشّر ببشير يبعثه الله. بشر كالبشر ولكنه بشرى ابن الصدّيقة برّأها من أهل الكذب وبوّأها مقام البِرّ.
لكن للباء بلاؤه أيضا: وباء وخراب وعصابة قبح وسراب وبراثن حرب وضباب يحجب ما أبدى من خلف الحجب رب السحب وما فيها وبيادر خير يخفيها.
وله في الكرب وفي كربلاء وفي كل كبيرة نصب ونحيب.
ليس أحب للباء من حبة حب يزرعها تنبت سنبلة من بنتين وأبناء في بيت من شَعر أو شِعر. بعض الضوء بمصباح يكفي. وصباحا سيجدد برمجة الحبكة كي يستبصر بدءا يتجدد في كل نهاية بشري: سنبلة حياة تنبت فوق القبر.

مقالات ذات صلة

طفل وصورة
كان طفلا في مدرسة لها قسمان، سورها من شجر عال متكاثف له شوك أبيض طويل. يلبس صندلا من البلاستك ذي النتوءات التي كثيرا ما...
4 دقائق للقراءة
صوت لا يخبو ونبض لا يموت
وتبقى الكلمة…موقفا وروحا ونبضا لا يموت.كثيرا ما يُظلم الشعراء، وكثيرا ما تجد القصائد الجميلة نفسها سجينة في زمن يطغى فيه الابتذال وتسيطر عليه الرداءة.وكثيرا...
< 1 دقيقة للقراءة
لقاء مع العملاق
لقاء جديد مع العملاق، صديقي الفنان الكبير لطفي بوشناق، مناضل بالفن، مناصر للقضية، موغل في حب الوطن، وفي العروبة، وفي حب فلسطين.فنان من زمن...
< 1 دقيقة للقراءة
زيتونة
اجلس تحت شجرة زيتون اتنسم نسائمها البارده واتنعم بظلها الوارف واستمع لحفيف الريح على اغصانها يعلو كانه العاصفه ثم يخفت حتى لا يكاد يسمع...
< 1 دقيقة للقراءة
رسالة إلى الذين يعرفون أنفسهم
واجهت في حياتي أعداء كثرا.واجهتهم يافعا موهوبا، فكرهوه حسدا.وشابا قويا طموحا، فازدادوا كمدا.وأواجههم اليوم وقد بلغتُ أشدِّي، فلم يفز منهم أحد علي أبدا.صحيح أن...
2 دقائق للقراءة
في فلسفة الوجع
حياتنا قصة مكتوبة في لوح القدر، ونحن نقرؤها بتنفيذ ما فيها، ونتكشف كل يوم ورقة من ورقاتها، فصلا من فصولها، حدثا من احداثها…ونبقى في...
2 دقائق للقراءة
تحية لتلاميذي
تلاميذي هم أبنائي، نمور علمتهم ودربتهم ومنحتهم ثمار عذابات عمري وخلاصة شقاء سنوات التدريب القاسي والبلاء المر.وفي مدرستي يكون التعليم في الحال والمقال، في...
< 1 دقيقة للقراءة
في معنى كلمة مولى
ذكر أحد الأحبة عن كلمة “مولى”، أن المولى هو الله عز وجل، وليس الإنسان مولى لأحد.وهذا فهم ضمن معنى الربوبية الإلهية حصرا، لكن للألفاظ...
2 دقائق للقراءة
استقلال وشعر
الشعر استقلال للغة، وتحرر للمعاني، وتحرير للصور من استعمار النمط وسيطرة القوالب.وعبث جميل بحجارة الأفكار، وطيران باجنحة الخيال في آفاق الممكن والمستحيل.وبين العشرين واليوم...
< 1 دقيقة للقراءة
يابا العمدة
منذ الصبا كنت اتابع واحب المسلسلات المصرية، وكنت مغرما باللهجة الصعيدية، وبمشاهد بقيت راسخة في ذهني.ومن الشخصيات التي كنت احبها شخصية “العمدة”، ومشهد الغفير...
< 1 دقيقة للقراءة