3 دقائق للقراءة
القتل والتقتيل وقصة قابيل والقاتل والقتيل، إذ قرّبا قربانا فتقبّل من أحدهما فقط. حرقة في قلب القاف ترزح كالنّقط: مقت وقهر ونقمة وانتقام. وربما قهره النفاق والفقر والإملاق. لكنه يحلّق في آفاق الكلمات، فالقاف حرف مسافر رغم كل قروح قلبه وحرقات روحه.
يتقن القاف فنون القول كلها، ويقرأ القصائد ويترنح كلما مرّت بقربه قافية. ولطالما تفاخر على إخوته بقافيّة الشاب الظريف:
لا تخف ما صنعت بك الأشواقُ
واشرح هواك فكلنا عــشـــَّاقُ
فالقاف قيثارة الحروف: ينطق بحكمة لقمان وفصاحة قسّ بن ساعدة، ويعزف ببراعة إسحاق الموصلي، يعشق موسيقى الكون، يخترق حدود المعقول وفصول المنقول، يخطف القلوب ويبهر العقول، ويسحر الألباب بما يقول، هو حرف العشق والشوق والتوق، لا يخون الميثاق ولا يفك الوثاق، رغم قسوة الفرقة وقساوة الفراق، وحمله الثقيل وقلبه المثقل بالكثير وبالقليل، ورغم الأقاويل وكثرة القال والقيل، وليس أوثق من قيس ليلى دلالة على قوة عشقه وحرائق شوقه، يشقّ البيد تقتاده أشواق تقتات على رحيق روحه ويردد من أعماق الشوق: يقولون ليلى بالعراق مريضة…
والقاف حرف ثقة ورقّة ودقّة أيضا، معين للذوق ومنبع لجمال الخلُق والخلقة. يطرق أبواب المعنى، ويتأمل أسرار الخلق ليبصر عظمة الخالق. ويرتجف قلبه كلما تردد صدى “اقرأ”، ويرتقي في دقائق ورقائق التجلي الأول على القلب الأنقى والمقام الأرقى، وتدمع عيناه وهو يسمعه يقول في ختام الرحلة الأرضية القصيرة: إلى الرفيق الأعلى. والقاف يقرأ القرآن ويتلو الفرقان ويؤمن بالحق ويطلب الحقيقة ويسلك الطريقة ارتقاء ونقاء.
للقاف قداسة وقدرة على أخذ المعاني بقوة: فهو للحق وأحق أن ينصره، وهو للرفق وأقدر على اعتماده، وهو الرفيق والصديق، يفتخر بالصدق معنى وبالصداقة رابطا، وبالنقاء قيمة. وحين تقترب من عوالم القاف تجد قوافل وقبائل، أقواما وعمالقة وأقزاما، ونوقا وسوقا وقصائد في عكاظ الشعر. وواد لعباقرة الجن يعلّمون سر القصيد لقائليه من البشر: وادي عبقر. وقلائد وحدائق وشقائق نعمان وقرنفل وأقحوان.
القاف منطقي، ينطق بحكمة ويبحث في المنطق واللامنطق، وهو الراقص بين المباني والمعاني: كلما ناحت قبّرة أو برقم بلبل. وحتى حين يلتقي بمعنى جديد، يظل وفيا للقديم السابق ولئن تأقلم مع المحدث اللاحق. ويتقوقع أحيانا في فقرة راقية أو معنى نقيّ، ينفض عنه الرق ويتسلل من أحلام الورق وخواطر القلم، ويلقي بيانا جديدا عن قيمة العقل والعقلنة.
والقاف سريع جدا، سرعة البرق والبراق أيضا، أو طلقة تخرج من بندقية قنّاص. ولكنّه وهو الرقيق يُقسم دائما للحروف على تجاوز الفوارق وتعميق القواسم المشتركة وبناء العلاقات، وهو مهندس القواعد ومنظّر القوانين وصاحب عهدة القضاء، يضرب بمطرقته ليطبّق ويحقّق، أو ينفخ في البوق ليعلن عن قدوم قائد أو قيام حرب. يترقّب كالفهد القناص فريسته القادمة: يقتنص الفرص ويسترق السمع ويسرق بعض الألوان من حقول الكلمات، ليتعمّق ويدقّق، ويضعه فوق القمة قدمه، ولربّما مشى غير مبال في حقل ألغام. وعندما تنفجر معان أخرى للقاف، يتوثّب كالقط أو ينكمش كالقنفذ، ويقضم أظافره وهو يتوقّع أمرا غير متوقّع، أو يوقّع على كتاب يضمّ أقواله وقصائده الشرقيّة، يحب الشرق وشروق شمسه المتألّقة، يَخفِق ألقا ويُخفق في إخفاء آثار أرقه. وللقاف قول في الفقه والمقاصد، لكنّه يكتفي بالنظر في مقالات القدامى والسابقين ليقتفي آثارهم ويبصر طريقا أقوم إلى الحق.
القاف تقدّمي، ديمقراطي جدا، يتقبل النقد، لكنّه منغلق أمام الفسق والقبح وسحق القيم. يؤمن بالثقافة وينأى بفكره عن ضجيج المقاهي، فالقاف مثقف ملتزم، لكنّه يحزن حين يرى فقر الثقافة في عقل قارون، وفقر المثقف في قرية العالم. يعتقد أن الحضارة لا تكون بلا ثقافة، وأن الثقافة لا تكون في قوالب وقوارير. ولذلك قررّ القاف التحوّل إلى طاقة فكر خلاّقة.
يعشق القاف الألوان، يضمّخ كفيه باللون الأزرق ويهيم بين زرقة السماء وزرقة البحر وعيني زرقاء اليمامة، يوقن أن على الخالق رزق الخلق، وأنه مخلوق لبوارق قدسيّة. يرنو بكيانه لبيت المقدس وينساق خلف تواريخ لا يمحوها الوقت. يتوقّف أمام كل مشهد ومعبد ومسجد، يسجد نحو القِبلة ويقترب، يلقي عن كاهله أحمال الأقدار. يقبل على المستقبل بيقين، يقبّل أعتاب القدّيسين، ويرقب ميقاتا يأتي، يتيقن من قرب يوم القيامة.
كل حياة القاف كانت (قدَرا)، و(قِدْرا) للمتناقضات في شهقة المعاني المتقلبّة، وعلى مقربة ينتصب الميم ليرسم (قمرا) رائعا، ثم يرتمي الفاء ليصوّر (قفْرا)، ويسبقه القاف ليكون (فقْرا)، ثم يلقيه خلف الراء ليختنق (قرَفا)، ويمضي إلى آخر المبنى ليشكّل (فِرَقا) ويوجد (فَرْقا) ويمتدّ (فراقا)، حتى إذا تخلفت الراء أوجدت (رفاقا) في طريق اللغة الرائعة…
إن للقاف سرا حقيقيا، القاف قدّس القيوم القدير القادر سرّه في مقام عظيم، ويبتسم القاف كلما سمع مقرئا يرتل في خشوع: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) فللقاف سورة باسمه في القرآن العظيم…يا لخلود القاف في قمة المعنى.