كتاب حكايات الحروف (5): الجيم

3 دقائق للقراءة

عاشق لعلم النجوم. لا يؤمن بالتنجيم. يخشى الجحيم. يحن إلى دار الهجرة. يجتاز المحنة. يتناغم مع الحاء كولد له من رحم النقطة.
للحاء مأساة واحدة: الحسد. وحين كان إبليس قبل عصيانه واحتجاجه وجراءته في كنف الرحيم. ولما افترست قلبه نقطة الحسد ولدت مأساة الجيم: الرجيم.
لكن الجيم يحب الحاء، ولهما معا مقام محفوظ وجزاء موفور، وقصة مع إبراهيم. فقد كان مع ابنه يرفعان القواعد من البيت، ثم جاء الأمر أن يدعو باجتماع الحرف الأب وابنه، فأذّن إبراهيم في الناس بالـ…حج.
أما حين تجادل مع النمرود، فقد حظر الأب وابنه مجددا، مع ثبات التاء مغلقة قوة وشدة، فكانت الــ حٌجّة.
وفي الأشهر الحرم…يبتسم الجيم للحاء حين يأتي ثانيها: ذو الحِجّة.
أما حين يشاكسهما الراء ويرميهما بـ(حجر)..فإنهما يطوقانه بينهما ليولد (جرح) ويموت (جرح) آخر…لكن الحاء ربما تحالف من الراء فشعر الجيم بـ (حَرج)…فيأمره أن يغادر إلى بوح حر..ويبقى الجيم مع الراء يصنعان أدوات (جر)……أو يخترعان مع راء أخرى من بنات الرّي: (جرّارا)……
لنرحل مع الجيم….
يوم التقى الدال والياء كان الأمر (جيدا)…وحين غادر الياء صار الأمر واضحا (جدّا). ثم رجعت الياء تجر التاء ودالا أخرى، لتصنع جملة (جديدة). الياء والدال ارتحلا إلى (جِدّة)…أو سمعا من قصص الــ (جَدّة)…..قد تغيب التاء لظروف مفاجأة…فيلهو الجيم يإعرابه..فهو الـ(جَد) وهو الـ(جِد)…
وهو الـ(دجـ..)…يحدجني بنظراته كي لا أكمل…يأتي جيم شاب يمد يديه بينهما يضحك ويسترسل: (دجاج)….لا يحب الجيم الدجاج..له جناح لكنّ جبنه يمنعه من التحليق..يحب الجيم الجبنة…ولا يعترف بالجبن وبالجبناء. لكنه حين يرجع إلى الدال منفردا تأتي واو لتعطف قلبه فيكون الـ(وَجْد).
الجيم مدجج بالحجج…محتجّ على جمهرة أشعاره ومجاميع حكاياته، وكلما فُجع بفاجعة وأوجعته فجيعة لجأ إلى ربّه مناجيا راجيا، ولعلك سمعته يردد منفرجة ابن النحوي (1):
اشتدي أزمة تنفرجي قــد آذن لـيلك بالبلَجِ
وظلام الليل له سُرُجٌ حتى يغشاه أبو السُّرجِ
أو يناجي بمنفرجة الغزالي (2):
الـــشِّـــدَّة أوْدَت بـالمُـهَـجِ يـا ربِّ فـعـجِّــل بالـفَـرَجِ
والأنفسُ أمست في حَـرَجٍ وبِيَـــدِك تفريـج الـحَـرَجِ

تنفرج أسارير الجيم، لكنّه يرجع للوجع يجدّده …مرة تلك النظرة تجبره وتُجهده، في ليل تهجّده…صوفي كالحلاج، أو راج ومناج، منجرف من غير علاج، تواجد حتى ارتجّ كيانه، ألجمه الشوق ولجّ سؤال الوجدان، عجّ بأسئلة أخرى…للأجمل وأجلّ جميلات الكون..احتجّ على جهله بالعشق…جرّب تجربة أخرى..أن يجتاز المحنة ليجازى بجائزة لقاء…نسج العشق نسيجا واختلج بروحه شوق جارف…جرفته الأشواق إليها…جمان مبتسم ولجين…في لجة بحر لجي يتلجلج..ذات الغنج يناجيها بقول الآخر:
قد لَجِجْنا في هواك لَجَجا..
جميل عشق الجيم لحواء خلقت من نقطة روحه…مجنون كصاحب ليلى… .يحب جنيّة سلبت جميع عقله..أو جارية سحرت قلبه..أو جاز له أن يعشق مجازا جملة من جُمل اللغة..انتبه حين تفتح جيم الجُمل لأنك ستجد أمامك الجمل..ظمآنا لا يجد مجالا غير الصبر.. أو أنك قد يخطر لك أن ترسل الميم إلى الغيم وتأتي بالباء من البيت ليكون الجبل..عد الجبال من حولك وكن جبلا..رجلا…والجيم رجل…وفخور برجولة قلبه.
ماذا يجول الان ببالك…أوجدت جمال الجيم؟؟؟
في ركن آخر خلف جدار أو جانب قصة..ستجده متعلقا بعجُز في بيت قصيدة ..أو عجوزا… يلبس جبته… ويجتر حكايات الأجداد…أو ماجد قوم ينجز وعده يستل سيوف الأمجاد…أو عاجز يجزم أن يتجاوز عجزه…أو جندي أو جلاّد…
مشاهد أخرى في وجدان الجيم: جنائز تمضي…موت يسري تحت الجلد…ورضيع يضحك في جذل…يبتهج بحبه زوجان…أجهزة تنجز ما يعجز عنه الإنسان..جِمال تحمل أحمالها تطوي الكثبان……جمهور صفّق للشاعر..جائزة للفنان…جوهرة في صندوق منسي..وجزيرة كنز لم يدرك شاطئها في يوم إنسان…
للجيم وجود مملوء بالأحاجي: ألغاز المجرات البعيدة وأسرار الموجودات… يأجوج ومأجوج يختفون في جحر او أحجية… من جعلوا لله شركاء الجن..أو من أسس بنيانه على شفا جرف هار…من كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج…وريح صرصر تنزع الناس كأعجاز نخل منقعر…جمرات ترجم شيطانا…وَجِهات أخرى للجيم وِجْهات نحو النور…السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار…من المؤمنين رجال صدقوا… من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره…أو من ناداه الله جانب الطور الأيمن وقرّبه نجيا… وصافنات جياد توارت عن سليمان بالحجاب…ومن أجاءها المخاض إلى جذع النخلة… ومن جاء بالحق وصدّق المرسلين وهاجر هجرة صدق مع صدّيق…معراج وحبيب يجتاز.. معجزة نبي ونبوة إعجاز …ما خلف الحجب وفوق خيال ومجاز ..جبريل وسره عند الجبار..ذو الجبروت وأسرار خلفها أسرار..والجنة وجنان الخلد..جهنم تجمع أهل النار…
الجيم جلال وجمال…والأمر عجيب وعُجاب…
جمّع أفكارا…تتراءى من خلف حجاب…
جزّء …أو أرجئ حيرة روحك… لمجيء جواب.


(1) من درر الشعر العربي في المناجاة والشكوى، ولها معارضات وتخميسات كثيرة، يرددها المنشدون إلى اليوم، منسوبة لابن النحوي: يوسف بن محمد بن يوسف التوزري التلمساني أو أبو الفضل 433 هـ – 513 هـ/ 1041 – 1119 م، عرف بابن النحوي التوزري نسبة إلى توزر مسقط رأسه في الجنوب التونسي.
(2) أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الصوفي الشافعي الأشعري، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري.

مقالات ذات صلة

طفل وصورة
كان طفلا في مدرسة لها قسمان، سورها من شجر عال متكاثف له شوك أبيض طويل. يلبس صندلا من البلاستك ذي النتوءات التي كثيرا ما...
4 دقائق للقراءة
صوت لا يخبو ونبض لا يموت
وتبقى الكلمة…موقفا وروحا ونبضا لا يموت.كثيرا ما يُظلم الشعراء، وكثيرا ما تجد القصائد الجميلة نفسها سجينة في زمن يطغى فيه الابتذال وتسيطر عليه الرداءة.وكثيرا...
< 1 دقيقة للقراءة
لقاء مع العملاق
لقاء جديد مع العملاق، صديقي الفنان الكبير لطفي بوشناق، مناضل بالفن، مناصر للقضية، موغل في حب الوطن، وفي العروبة، وفي حب فلسطين.فنان من زمن...
< 1 دقيقة للقراءة
زيتونة
اجلس تحت شجرة زيتون اتنسم نسائمها البارده واتنعم بظلها الوارف واستمع لحفيف الريح على اغصانها يعلو كانه العاصفه ثم يخفت حتى لا يكاد يسمع...
< 1 دقيقة للقراءة
رسالة إلى الذين يعرفون أنفسهم
واجهت في حياتي أعداء كثرا.واجهتهم يافعا موهوبا، فكرهوه حسدا.وشابا قويا طموحا، فازدادوا كمدا.وأواجههم اليوم وقد بلغتُ أشدِّي، فلم يفز منهم أحد علي أبدا.صحيح أن...
2 دقائق للقراءة
في فلسفة الوجع
حياتنا قصة مكتوبة في لوح القدر، ونحن نقرؤها بتنفيذ ما فيها، ونتكشف كل يوم ورقة من ورقاتها، فصلا من فصولها، حدثا من احداثها…ونبقى في...
2 دقائق للقراءة
تحية لتلاميذي
تلاميذي هم أبنائي، نمور علمتهم ودربتهم ومنحتهم ثمار عذابات عمري وخلاصة شقاء سنوات التدريب القاسي والبلاء المر.وفي مدرستي يكون التعليم في الحال والمقال، في...
< 1 دقيقة للقراءة
في معنى كلمة مولى
ذكر أحد الأحبة عن كلمة “مولى”، أن المولى هو الله عز وجل، وليس الإنسان مولى لأحد.وهذا فهم ضمن معنى الربوبية الإلهية حصرا، لكن للألفاظ...
2 دقائق للقراءة
استقلال وشعر
الشعر استقلال للغة، وتحرر للمعاني، وتحرير للصور من استعمار النمط وسيطرة القوالب.وعبث جميل بحجارة الأفكار، وطيران باجنحة الخيال في آفاق الممكن والمستحيل.وبين العشرين واليوم...
< 1 دقيقة للقراءة
يابا العمدة
منذ الصبا كنت اتابع واحب المسلسلات المصرية، وكنت مغرما باللهجة الصعيدية، وبمشاهد بقيت راسخة في ذهني.ومن الشخصيات التي كنت احبها شخصية “العمدة”، ومشهد الغفير...
< 1 دقيقة للقراءة