4 دقائق للقراءة
تكريم الشاعر من طرف الملحّن والمغني أمر رائع على ندرته في تاريخ الأغنية العربية، التي يكون المجد فيها ماديا ومعنويا للمغني حصرا، وأحيانا يتسلل الملحن إن كان من المشاهير، أو كان مغنيا هو الآخر، مثل الشيخ سيّد مكاوي ومحمد عبد الوهاب في ألحانهم للسيدة أم كلثوم..
ويبقى الشاعر مخفيّا، رغم أن روح الاغنية وجوهرها هي الكلمة التي يعاني الشاعر لواعجها وحرقة قصتها وجنون رقصتها على إيقاع روحه وأوجاعه.
وأزمة الغناء العربي الراهنة ليست في المغنين ولا في الملحّنين، بل في الكلمة.
وهو مشروع تم العمل عليه منذ أغنية “لولاك” لحميد الشاعري حين تم تحويل الأغنية العربية إلى وجبات سريعة، وتم تباعا تمييع الكلمة وتسخيف اللحن وتتفيه الأغنية لتدمير الأخلاق وإفساد الذائقة التي هي جوهر في الإنسان.
ولا يخفى أثر الفن اجتماعيا ونفسيا في بناء الذوق أو هدمه، في نشر الفضيلة أو الرذيلة، في نصرة القضية أو خيانتها.
لقد كانت أغاني السيدة فيروز تشحذ همة المقاومين وتقوي معنويات الشعب وتؤذي العدو أشد من الرصاص، وخلف ذلك عبقرية الرحابنة، وروائع عمالقة الشعر في لبنان.
لم تكن مسيرتي مع الشعر هيّنة ولا سهلة، وأنا الذي حفظت للمتنبي وعمري ثمانية أعوام، وقرأت للطبري والجاحظ وابن قتيبة والمسعودي وحفظت سيرة بني هلال تقريبا وعمري إحدى عشر سنة.
وألفت أول قصائدي الفصيحة في ذلك العمر، وأروع قصائدي في الشعر الشعبي وعمري ستة عشر عاما (ضحضاح، هوى فاطمة).
وهو العمر الذي حفظت فيه لفطاحلة الشعر الملحون التونسي (احمد ملاك، احمد بن موسى، أحمد البرغوثي، العربي النجار، ومحمد الصغير الساسي).
ثم انطلقت مسيرتي التي لم تنقطع مع القصائد واللواعج في تناغم مع فنون الدفاع، وشكل الشعر والفن الدفاعي عجينة ذاتي منذ الطفولة البكر.
ثم كان للترحال في أرض الله عامة والعالم العربي خاصة، ولقاء كبار الشعراء والفنانين، أثر عميق في الانفتاح على تجارب ثرية ومدارس شعرية مختلفة.
هذا التكريم من الفنانين الرائعين الزين الحداد وعبد الله مريش، مع الفنانة الراقية فرنسواز أطلان، هو تتويج لذلك الطفل العاشق للكلمات، الذي كان منذ حين يعدو في ربوع الريف مسابقا أحلامه إلى قمة يراها القلب ولا تدركها العيون..
وأنا اعترف أني مقصّر في حق الشاعر، لكثرة الذوات العلمية في داخلي، حيث استحوذ خبير الشؤون الأمنية والعسكرية ومكافحة الإرهاب، والمفكر الإستراتيجي، على معظم الظهور الإعلامي. واستولى صاحب العرفان والشيخ على معظم الندوات الدولية، في حين بقي الشاعر سجينا رغم آلاف القصائد التي كتبها لقرابة الثلاثين عاما دون انقطاع ولا توقف.
لقد كان معي قبل أن اكون دكتورا ومفكرا ورجل إعلام وصيت دولي.
كان معي في أيام الانكسار، والوحشة، والفقد، والفقر والوجع.
وكان يصرخ في أعماقي حين أقترب من حافة الانهيار، حين تنهش قلبي الغربة في الوطن أو عنه، وكان يعجن من آلامي روائع فريدة، ويرسم من دموعي ملامح ابتسامتي القادمة.
وكان مع الساموراي الذي يسند روحي، جناحان لرحلة عمري المضنية.
أجل، حقق الشاعر امجاد المعنى وترك المبنى وراءه، إذ لم أتقاضى على أعمالي أجرا ماديا، لأن شعاري كان: لي الأرواح وللخيالة السلَبُ. كما قال صديق الصبا عنترة الذي علّمني كيف أكسر أغلالي وأركب أبجر الأمجاد وأرى في لمعان سيوف الأعداء التي تقطر من دمي ابتسامة حبيبتي.
وأجل حققت كلماتي قمة من قمم أحلامها حين صارت نشيد الشارع العربي الذي ردد مواطنوه وسياسيوه في محافل ومنابر إعلام ورفعوا في المظاهرات صرختي: خذوا المناصب والمكاسب لكن خلولي الوطن.
وكتب كبار الصحفيين والكتاب عن “انا مواطن”، و”تحت السيطرة”، و”يا بلادي”.
وصارت كلماتي في “أنا اليمني” نشيد اليمانيين على اختلافهم.
عبّرت عن حال المواطن وما يعانيه، عن أزمة الأمة، عن شروق شمس قادمة لا محالة.
صحيح أنه لم يتم تكريمي من قبل رغم روعة الكلمات وانتشارها، ورغم أن السر في الكلمات أساسا، دون هضم جانب من لحّن ومن غنّى، فقد كان لغناء الفنان الكبير لطفي بوشناق لكلماتي أثر عميق، خاصة “أنا مواطن”، وكذلك الفنان الرائع عبد الله مريش (تحت السيطرة مع الفنان لطفي بوشناق)، والمطرب الكبير نور مهنا (يا بلادي مع الفنان لطفي بوشناق).
صحيح أن نقاد الادب تجاهلوا كتاباتي في الشعر والقصة والأدب، وأن دولتي تعامت عن كل ما قدّمته (في المجالات الاستراتيجية والفكرية والثقافية، والإبداعية والدينية والإعلامية والاستشارية)، بل لم أجد إلا حرب عميان السياسة وعبيد الكراسي، وشتم أذيالهم ونباح كلابهم ومحاولات التشويه محليا ودوليا..
صحيح أني لم أطالب بحق مادي على أعمالي، رغم أني لست بالهيّن ولا الجبان، لكنه حكمة من استغنى بالله عمن سواه.
ولكني أعلن أن مارد الشعر في أعماقي سيغادر قمقمه، كما غادر مارد الفكر ومارد العرفان، وكما يغادر مارد فنون الدفاع الرهيب.
فأنا قبيلة من المردة تسكن في أعماق إنسان ضربت حديد ذاته مطارق الأيام حتى استوى.
مردة من العبقرية الفريدة والإبداع المتوهج الذي لا يغشاه زور، ولا يتغشّاه غرور.
مردة من التمرّد على الرداءة، والعقم، والخيانة.
مردة تحمل الشمس في لحاف السر، وتهدي العالم مزيجا من سلام الاقوياء وقوة المسالمين.
وما بعد “أنا العربي” روائع أخرى مع فنانين كثر، وأعمال كثيرة في شتى المجالات، ونشر لكل حرف كتبته في العلم والأدب.
وأنا التزم بتنفيذ هذا قبل اكتمال القمر بدرا، لأن البدر حينها لن يجد متسعا لما خطه القمر منذ ان كان مِحاقا ثم هلالا يكابد عناء الاستدارة.
اما ضباع الأعداء والجاحدين ومرضى الانفس والقلوب، فأقول لهم كلمات من الشعر الشعبي ارتجلتها ذات هاجرة وانا امشي حافيا على شوك البلاء وأقف تحت زيتونة لا شرقية ولا غربية أُوقد منها كوكب دري في مشكاة روحي:
ناي بحر يصعب ع المراكب شوطه
مدلهم بعيدة شطوطه
وقليل يفهم طلسمه وخطوطه.
وقريبا ننشر القصيدة مع شيء من معناها..
وإلى لقاء عند القمة القادمة.