5 دقائق للقراءة
الحمد لله الذي خلق الخلق بحكمته، وآتاهم من نعمته، وحذّرهم من نقمته. والصلاة والسلام على مجلى رحمته، هادي أمّته، وعلى آله الطاهرين مرايا ذاته ومجالي صفاته وسفينة المؤمن وسبيل نجاته.
ورضي الله عن أصحابه، والسلام على أهل الله وعلى أحبابه.
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى على خاتم رسله وإمام أنبيائه وأشرف خلقه كتابا يُتلى، فيه حكم عظيمة وأحكام رشيدة، وفيه ما شرع الله، وفيه ما فيه من شأن العقيدة والأخلاق والغيب والساعة، وفيه كذلك نُبذ من اخبار الأمم السالفة، وبعض من قصص الأنبياء مع أقوامهم، إذ أن الله اختار لحكمة يعلمها (وفي ذلك دعوة لنا لفهم شيء منها) بعض الأنبياء وبعض الأمم فقط كنماذج: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) (غافر).
وإن الحق سبحانه وتعالى قد ربط تلك القصص التي جعلها على أجمل أسلوب وأحسن سرد وأفضل لغة وبيان، حتى ذكر ان القرآن هو أحسن الحديث على مختلف وجوه الحسن والجمالية والأثر في قلوب أهل الذوق والشوق: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) (الزمر).
كما أن قصص القرآن كان فيه تحد لمن كانوا يستجلبون الناس بقصصهم وحكاياتهم عن العرب في الجاهلية وسواها حتى يمنعوهم من الاستماع إلى رسول الله، فأنزل الله سبحانه: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ (3) “(يوسف).
ولكن القصص لم يكن فقط للتحدي، ولا فقط لإثبات أن القرآن من عند الله وأن محمدا رسوله في تحد لأهل الكتاب وخاصة اليهود الذين أخفوا ما أخفوا من التوراة وحرفوا ما حرفوا منها وزيفوا الكثير من قصص أنبياءهم بكل ما يشين، ولا لتسلية الصحابة من السأم كما ورد في تفسير الطبري للآية، بل لغاية أعمق وأخطر، وهي الاعتبار.
وقد ذكر سبحانه في ختام نفس السورة التي فيها البيان عن أحسن القصص، والتي وردت بقصة واحدة عظيمة جميلة عن نبي كريم جميل، وفيها ما فيها من العبر، ذكر أن الغاية هي العبرة لمن كان له لب وعقل راجح وقلب نافذ: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (111) (يوسف)
وقد جعل قبل ذلك آيتين عظيمتين فيهما أن الرسل كانوا رجالا يوحي الله إليهم من أهل القرى أي كانوا أبناء مجتمعاتهم وكانوا على فهم بالواقع وعلى علم بما عليه أقوامهم من فساد وعلى دراية بمناهج الإصلاح مع لسان مبين وحكمة وفصل خطاب ويقين في الله، وفيهما دعوة للسير في الأرض والنظر إلى عاقبة السابقين (فلعل في ذلك مصير اللاحقين)، وأن الدار الآخرة خير للمتقين: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)”.
وهذا السير يتصل مباشرة بالبحث الأركيولوجي والحفريات والسفر في الأرض لغاية الاطلاع والفهم لما كان وسلف، كما يتصل النظر بعلم التاريخ وعلم الانتروبولوجيا وكل ما يتصل بدراسة حضارة الانسان وتاريخه وتاريخ المدن والأمم السابقة، فالتاريخ كما عرّفه ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع “في ظاهره لا يزيد عن الاخبار وفي باطنه نظر وتحقيق”.
فغاية تلك القصص النظر والتحقيق والفهم الذي يكون مؤداه: الاعتبار.
وقد دعا الله سبحانه وتعالى للاعتبار في الآية الثانية من سورة الحشر في ارتباط بأمر عاينه النبي وأصحابه وفي المعاينة دعوة لإدراك الكنه وفهم الحكمة وأخذ العبرة: “هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)”.
وهذه الدعوة للاعتبار تتصل بمن كان له بصر، وليس البصر مجرد رؤية العين بل الرؤيا العامة التي فيها البصيرة والقلب والعقل وجوهره (اللب). ولعل ذكر “اول الحشر” فيه إشارة لآخر الحشر الذي يكون فيه وعد الآخرة، ولعل كل قصص الأنبياء تؤدي إلى “قياس” ما سيكون في وعد الآخرة، أي إلى “نظير” لكل ما حصل يكون جامعا لكل تلك القوى التي دمر بها الله تلك القرى، ولعله يكون أشد وأقوى، ويلزم ذلك أن يكون فسوق القرية في آخر الزمان وطغيان أهلها وفعل أشقاها وعناد “عاد”ها وشذوذ قوم لوط الجدد فيها أشد وأكثر جرأة على الله وتحديا له واستهزاءا بكلماته.
كما يلزم ظهور من اختار الله لتأدية تلك المهمة الختامية، لأن الآيات ترتبط بمن يمثل الحضرة الربانية داخل تلك الشراذم الشيطانية.
فالاعتبار إذا مقصد رباني ومطلب إلهي لكل من كان له نظر وقلب ولب وبصر وبصيرة.
وقد تم تعريف الاعتبار وفق منهج أهل اللغة ووفق منهج أهل الأصول، وقد ورد في المعجم الوسيط ” اعتبر لغة: تدبَّر ، اتَّعظ به :- اعتبر بما حدث لجاره – اعتبر بمن قبلك ولا تكن عبرةً لمن يأتي بعدك “.(وهي حكمة منسوبة إلى أرسطو).
أما في في كتاب رفع الحاجب عن مختصر ابن حاجب لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي (توفي 771 هـ) الذي شرح فيه الكتاب المرجعي المهم في علم الأصول “مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل” ،لأبي عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب (ت646هـ)، حيث يقول السبكي في الصفحة 388: ” والاعتبار هو رد الشيء إلى نظيره، ومنه الاتعاظ: وهو رد الحوادث المستقبلة التي يفرض الإنسان وقوعها منه إلى الحوادث الماضية وإعطاؤها حكمها في الجزاء”.
ويرتبط الاعتبار بالقياس، حتى أنك تجد تعريفات متطابقة لهما، فقد ورد في المعجم الوسيط: ” القِياسُ : ردُّ الشيء إِلي نظيره”. وهو ذات تعريف الاعتبار. والقياس في الفقه هو حَمْل فرع على أصل لعلة مشتركة بينهما.
وقد ورد في حاشية كتاب: شرح “لقطة العجلان وبلة الظمآن” وهو متن مختصر لمحمد بن عبد االله الزركشي (المتوفى سنة 791 ه) جمع فيه أصول الفقه مع أصول الدين، المسمى “فتح الرحمن في شرح لقطة العجلان” لزكريا بن محمد الأنصاري (توفي سنة 925 هـ): “اعلم أن القياس في اللغة: تقدير شيء على مثال شيء آخر، وتسويته به، لذلك سمي المكيال مقياسا،وما يقدر به النعال مقياسا…
وقيل: هو مصدر قست الشيء، إذا اعتبرته”.
وقد أرسل إلي أخي الشيخ حسام الدين فرفور رئيس مجمع الفتح الإسلامي بدمشق تعقيبا على مقال “إرم ذات العماد” يقول: “والاعتبار هو رد الشيء إلى نظيره، يقال اعتبرت النعل بالنعل إذا قستها، ومنها أخذ القياس، ، فمعنى “فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ” كما هو معلوم ردوا حالكم إلى حال الأمم السابقة قبلكم فاحذروا أن تفعلوا مثلهم من المخالفات فيصيبكم ما أصابهم من المثولات والعقوبات”.
وكان هذا السبب المباشر لتسميتي للكتاب: “فاعتبروا”.
فضمن معاني الاعتبار ألفت مقالات بدأتها بخبر ناقة صالح، ولكن ضمن منهج قياسي يستشرف الآتي ويحلل الحاضر بناء على الاعتبار من قصص الأمم السابقة في القرآن. وها أنا أضع بين يدي أهل البصيرة والنظر والاعتبار والفهم العميق هذا المصنّف الذي أمضي تباعا في تأليفه، ليقيني أن سجن قصص الأنبياء والأمم السابقة في جانب الماضي فقط هو مخالف لدعوة الله للاعتبار، ومجانب للقياس والرجوع إلى النظير لفهم المصير، كما ان يقيني راسخ أن هذه الحضارة مهما بلغت تسير نحو ما كان من قبل ضمن سنة الله، لأن الطغيان بلغ أشده، وتجاوز الفساد حدّه، وفي القرآن تبيان عن عمى بالآيات التي في السماوات والأرض وهم يمرون بها، وليس أهل قرية تاريخ بني آدم أعلم وأكثر اطلاعا ومرورا بالآيات وتصويرا وتوثيقا لها في عالم الأكبر (المرصد) وعالم الأدنى (المجهر) وفي التاريخ وحفرياته من أهل قرية العالم اليوم (حيث يفاخرون أن العالم أصبح قرية واحدة بفضل المعلوماتية والعولمة)، وهم المعنيون مباشرة في اعتقادي بهذه الآيات من سورة يوسف، والتي فيها تبيان أن العذاب سابق للساعة، وهنالك آيات أخرى كثيرة وبراهين عديدة تجدها في متن هذا الكتاب.
وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
سوسة
24/08/2018 12:39