6 دقائق للقراءة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي علّم الإنسان أجود العلم وأجمله، وأرق الكلام وأفضله، وأعذب البوح وأجزله، وأرقى الأدب وأكمله.
والصلاة والسلام على نبي الهدى، ونور المدى، المبعوث بالحق والخير واليقين، وعلى صحبه المجتبين، وآله الطاهرين، ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
لكم يعجب الإنسان من ذاته حين يراها على غير ما عهدها عليه وبغير ما نظر به إليها، فكذلك الحال في التردي والسمو، والتباعد والدنو، فكم غريبا عن ذاته، وكم مترد في حياته، وكم عاجب من نفسه، متهاو معها حتى يرد القاع الصفصف، أو مترق بها حتى يلامس ما لا تطاله إلا روح حرة، ونفس متحررة، وعقل مستنير، وقلب سليم، فهذا شأن الإنسان منذ أن كان آدم، مخلوقا بيد الرحمان، منفوخا فيه من روح الديّان، معلما لملائكته من الأسماء مفتونا بشيطان، نازلا للأرض في هوان، تائبا أوابا متلقيا كلمات الحق من الحق سبحانه فانيا أبديا قديما جديدا متجددا..
وإن حالتي وأنا أراجع كتابي “البرهان” بعد سنين من كتابته، ضمن ذلك التعجب الذاتي الإنساني، فقد عجبت من ذاتي ومن نفسي وعقلي، إذ أن التوقع لم يكن يبصر قليلا أو كثيرا من هذا المدى القرآني العلمي الذي وفق الله إليه في هذا الكتاب، رغم أن الطريق لمنحته كان محنة مفنية وامتحانات مضنية، وأنا مؤمن إيمانا يقينيا أن الله سبحانه يمنح على قدر المحنة، ويمتحن على قدر المنحة، فكل ممنوح ممتحن، ولكن ليس كل ممتحن بممنوح، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء إن الله ذو الفضل العظيم.
في طرابلس، وبتاريخ السبت 27 شوال 1427هـ الموافق 18 نوفمبر 2006 م كتبت فاتحة البرهان بعد أن دونت منه نصيبا، ثم أكملته بفضل الله كاتبا القسم الأول منه بيدي قلما على ورق، ثم بعد رقنه أكملته كتابته على الحاسوب حتى بلغ المدى خمسة آلاف صفحة في فنون للعلم شتى، وأسميته بحمد الله “البرهان”، لأني تأملت من خلاله وفيه وبه براهين قرآنية علمية ذوقية رفيعة، تجدها إن شاء الله في صفحاته، وفي أجزائه وما سييسر الله لي نشره منها.
لم تدم فترة الكتابة على كثرة ما فيها طويلا، لكن مخاضها السابق وتحقيقها اللاحق أخذا زمنا. وقد عدلت في فاتحة الكتاب وفي محتواه وراجعته مرارا وتكرارا وذلك شأن كل كاتب يدقق ويراجع ويعدّل ولا يرى الكمال فيما يكتبه. كما كان لي أحوال وقصص كثيرة قبل كتابته وكانت محن لا تعد عشتها بصبر وألم في وطني تونس، منه ما كان من قسوة الأيام، ومنه ما كان من جور الظالمين ممن كانوا يحكمون البلاد ويبطشون بالعباد، ومنه ما كان من بلاء الدنيا، وأمرُّه من ظلم الأحبة وظلم نفسي لنفسي. ثم كان في قدر الله أن أغادر كطائر مكسور الجناح، فجئت طرابلس لا أملك من عرض الدنيا شيئا، حتى جعل الله لي مخرجا.
كتاب البرهان شكل تغييرا في حياتي كلها، وكان بركة تامة، لأن من خدم القرآن صادقا جعل الله سبحانه له سبيلا، وكم لله من يد ومن نعماء، فطفت دولا وأمصارا، ومدنا كثيرة، أدقق وأحقق، وأحاور وأناقش، فجمعني الله بنخبة من كبار العلماء، وأفاضل المشائخ، وكثير من الطيبين، وساعدني وأيدني إخوة كثيرون أعرفهم ويعرفون أنفسهم وإن لم أذكرهم بالاسم فإني مدين لهم وباق على ودّهم.
بين المحنة والمحنة كانت رحلتي قبل هذا الكتاب ومعه وبعد كتابته، فقد كنت قبل كتابته مباشرة في محنة كتبها الله علي، ففررت إليه، ولجأت إلى كتابه العظيم وقرآنه الكريم، فوجدتني كلما اشتد علي وجع القهر وسوط الدهر أقرأ القرآن، فقرأته حرفا حرفا، وتأملته كلمة كلمة، وقد كان ذلك ديدني منذ عانقت أنواره، ولكن المحنة إذ اشتدت جعلت الحبل أكثر اتصالا، والفكر أكثر انشغالا، فكان أن أصبح كتاب الله قوة روحي في مواجهة عسف الأيام وسطوتها وقوة الآلام وقسوتها، فحفظه قلبي، ووعاه عقلي، وجدته منسوخا بشكل كامل في صدري، وكل ما في هذا الكتاب وهذه التأملات، بل كل حرف كتبته وسأكتبه، فمن هدي هذا القرآن ونوره، فضلا من الله ورحمة، وفتحا من لدنه على قلبي وبصيرتي.
لا أخفي أني درست العلوم التي كتبت عنها وقرأت منها نصيبا، وأني كنت مدمنا على المطالعة والقراءة منذ صغري الأول، لكن ذلك لا يكفي لأفسر حال الكتابة، لأن كل تلك الأرضية المهيأة في العقل لا يمكن أن تنتج معرفة أو إبداعا إن لم تكن منحة الإبداع وموهبة التأليف مودعة من الحكيم الخبير مصقولة بالمحن مهذبة بالتجربة.
مازال القلب ينتشي حين أذكر حال الكتابة ذاك، إذ أن اللغة تطيع، والفكر يلين، ومازال ذلك الحال الكتابي يرجع باطراد ولكن الانبجاس الأول أجمل دائما.
ولعل أهم ما ميز حال الكتابة يُسر التمشي داخل العلم المعني وقوة الترابط بينه وبين كتاب الله (أمر لك أن تتبين صحة ما أقول فيه من عدمها)، كما أن حضور آيات القرآن الكريم أمام بصيرتي كان حضورا جليا قويا كلّيا، وهو من بركات حفظ القرآن ووجوده في الذهن، وبذلك كان الغوص عميقا وكان التأمل صافيا هادئا.
والكتاب تأملات في العلم والقرآن، بالتدبر والحجة والبرهان، ولكنه ليس محاولة لإثبات صدقية القرآن وإعجازه، فذلك ثابت في القرآن وحجته فيه أقوى، ولكنه يقصد العلم والإنسان، فيحاور العلم تأملا، ويحاور الإنسان تدبرا، ليكون الخير للعلم في ذاته، ككون فكري تأملي يحتاج روح القرآن وما يمكن للعقل أن يقارب من علمه وللبصيرة أن تستجلي من سره والإدراك أن يستنبط من محكمه وأحكامه وحكمه. ثم يكون الخير للإنسان كمحتاج دائم لمزيد الرقي وللتأمل والتفكر والتدبر وتطوير الفهم وتعميق الصلة بين القرآن والعلم والعالم وذاته، فأنا موقن أن القرآن نبراس للعلم وفيه من روح العلم وخلاصته وفيه مما نعلم ومما لا نعلم ومما سيتعلم العالمَ والعالِم حتى يرث الله الأرض ثم تشرق من جديد بنور ربها. كما أني مؤمن يقينا أن القرآن رسالة من الله للإنسان، وأن الإسلام دين كوني، فذلك من رحمة الله للعالمين رحمة تجلي نور كلماته وأسرار آياته، ورحمة نبي الهدى والنور والحب والسلام والرقي والجمال والجلال والكمال، نبي أرسله المولى سبحانه رحمة للعالَمين وحجة للعالِمين وبرهانا إلى أبد الآبدين.
على كل ستجد في أجزاء البرهان، وفي طيات هذه التأملات، مقاربة في العلم والقرآن منها ما كان تأملا تفكيريا وتطويريا لعلم بذاته مما يوجد في خزينة العلم البشري، ومنها ما هو تأمل إلهامي لعلم منشأ داخل علم موجود أو لعلم مبتكر مستجد في خلاصات ومختزلات وعصارات ودقائق هي من قبيل اليقين عندي وهي من قبيل التصور عندك لك أن تنظر فيها وتناقشها، أن تقبل منها ما لامس عقلك وأن تتذوق منها ما عانق وجدانك، ولك أن تحقق وتدقق وتتأكد من كل علم على حدة تفسيرا أو تطويرا أو ابتكارا، وستجدني أصل كل ذلك الكون العلمي بكتاب الله فحين أقول علم الجمال مثلا فأنا أعني علم الجمال القرآني، أي علم الجمال كما تأملته من خلال مفهومه الأساس ثم كما صغته من خلال تأمله في كتاب الله وتدبر آيات تحتويه ثم ما كان من إعادة صياغة تنطلق من القرآن لترجع إلى علم الجمال فيصبح الناتج علم الجمال القرآني، وهكذا، وأنا في ذلك أسعى بما يسر لي الله وأشعر أن الأمر توفيق لا كسب عقل، وقد توافقني أو تخالفني، وقد تجدني أصيب أو تراني أخطأ، لكني في كل الأحوال مخلص لك، بكل تواضع ومحبة، وبكل إيمان بأن كتاب الله بوابة ربانية للعلم، وأنه منطو على علوم لم يُعلم منها إلا القليل، وأن كل فنون العلم لم تجعل في الأصل إلا للرقي بالإنسان ومنحه قدرة أكبر على فهم ذاته والتفاعل مع الحياة والكون وفعل الأفضل والأحسن، وأن كل تلك الفنون العلمية جعلت أساسا لتكون طريقا إلى الله ومنهاجا إلى الإيمان به وصراطا للإستقامة والتقوى.
إن ديدني في كل تأملات البرهان تأسيس علوم ومفاهيم جديدة كليا او إضافة مفاهيم جديدة لعلوم موجودة سلفا مع ربط بالقرآن العظيم، واستلهام منه، وسير على هداه، فهو مصدري ومرجعي، ومعيني ومنبعي، ضمن ربط ومنهج ومصفوفة وأطر وخلاصات، فذلك القانون الأساس للكتاب كله.
إن القرآن مأدبة الرحمن، وفيه من كل خير وفضل وعلم نور وحجة وبرهان، كريم يجود بلا انقطاع، وكلم طيب يعطي أكله كل حين بإذن ربه، أولم يضرب الله المثل ولله المثل لأعلى عن كلمة طيبة، فهل أطيب من القرآن كلمة وهو كلام الله سبحانه المنزل على خير خلق الله عليه صلاة الله وسلامه..فالغريب أن لا يُستنبط من كتاب الله كل حين علما وفهما وحكمة، فلنقتبس من نور القرآن، ولنستلهم منه ففيه الذخر لكل زمان ومكان، ولنقف بالأعتاب سائلين الله نور المعرفة وأنوار العرفان ومدد العلم وجودة الفهم، آخذين بالأصول من الأوائل الفحول، مستخدمين ما سخر لنا الله من علوم ومعارف للرجوع إلى القرآن العظيم بأسئلة جديدة ورؤى مستجدة تستلهم الإبداع من إعجازه، وتستبصر الحقائق في كنفه، وتستخرج الكنوز من بحار أنواره ومشكاة أسراره. ولنصل قلوبنا وعقولنا وأرواحنا بكتاب الله ولنكن فيه متدبرين تدبر إيمان وعلم يقين، فذلك أمر رب العالمين، وتلك دعوته إلى يوم الدين: ” أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴿24﴾”
تونس
الثلاثاء 25 محرم 1433 هـ الموافق 20 ديسمبر 2011 م