موسوعة البرهان، الجزء الأول (13): العلم بالله (3)

4 دقائق للقراءة

حين ننظر في مستويات الآيات بين التعميم والتخصيص نجد تقسيما رائعا بديعا، خاصة حين نعلم أن كلمة “اقرأ” كُررت على النبي عليه الصلاة والسلام من قبل جبرائيل عليه السلام ثلاثا والنبي يقول: ما أنا بقارئ، فحين نضيف ذلك نجد هذه الأنساق الثلاثة (المبينة في الصورة)

وحين نفكك ونقنن ما بينا يمكن أن نستنبط الآتي:

1 القراءة العامة: تدبر وتمعن ونظر وفهم….والدعوة العامة خص بها كل الناس ضمن سياقات كثيرة للقراءة العقلية والبصرية والتمثلية كقوله سبحانه: ” أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)”
فكل هذا دعوة عامة لقراءة كتابي الكون والأرض وما فيها من كائنات…

2القراءة الخاصة: وهو ما منح الله نبيه، فلقاه قرآنا، وعلمه بيانا، وزاده فضلا وإحسانا، وعلما وحكمة وعرفانا: “وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) ”
وهو وحي من عنده وتعليم من لدنه، ونور وروح وفضل عظيم:” وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)”
وهنا مجال للمؤمنين بالله الذاكرين له الذين يتفكرون وينظرون في ملكوته وآيات خلقه وبراهين وجوده بإيمان ويقين وعلم بالله : ” الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) ”

3الخلق العام: فالله خلق كل شيء: ” ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)”
وضمنه التكوين، ما خلق من الكون وفيه…وضمنه ما سماه الله سبحانه “الآفاق”…

4الخلق الخاص: خلق للإنسان، فهو مخلوق، والأمر لحكمة، ثم تخصيص الخلق “من علق”…وهنا علم الإنسان وخلقه وتصويره وغير ذلك من معطيات علمية دقيقة العلم البشري الحديث حقيق على أن يقر بها مسلّما بإعجازها، كقوله سبحانه: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)”

فسبحان الله كيف لخصت كل الوجود الإنساني ومساره وحقيقته…لتفتح باب التأمل في حياة الأرض بالماء ومنه على البعث تيقنا وفق بناء منطقي على صحة كل ما سبق..وهو علم حق في كتاب حق، وهنا جانب الأنفس، وكنت بينت في المقدمة الخاصة بالعلم والقرآن الآية الجامعة للتكوين أو الآفاق والأنفس، وسأورد معها الآية الموالية لها في آخر سورة فصلت..” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ ۗ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)” ..
فالرؤية الجلية للآيات في الآفاق والأنفس بوابة للتيقن من الله ومن لقائه…فذلك من جوهر العلم بالله…

5التعليم العام: تعليم الله سبحانه لكل من خلق…وهو علم منظم للمخلوقات موجود في الخلق عامة، ولدى الخلق عامة بمراتب… ولكنه يميز في آيات سورة “العلق” التي نحن بصددها بالتعليم بالقلم ، وتخصيص التعليم بالقلم لا يحد من تعميم التعليم لأن القلم كما قلت مجهول ضمن معناه الرباني الصوري ومدرك ضمن متعارفه الإنساني المحدود…
العلم عام منحة إلهية لمن خلق، كل حسب مقامه ومرتبته، فالنحل علمه الله كيف يتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون وكيف تأخذ الرحيق وكيف تعرف السبل وهو علم عظيم وعجيب ومذهل: “وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)”
فهو إلهام منه…شبيه بالبرمجة…فطرة وآليات…لكن ليست تعقلا تطويريا…
والملائكة علمهم الله تلقينا مباشرا لهم، وحدود علمهم ما علّمهم ربهم سبحانه بعلم وحكمة: ” قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)”

6التعليم الخاص: تعليم خاص للإنسان المخلوق من عدم، وهو تعليم لكل إنسان، ابتداء بأول إنسان وهو آدم عليه السلام:” ” وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31)”
مع ما علّمه لأنبيائه ورسله ولنبيه محمد من علم القرآن وما شاء له من علم وصولا إلى كل إنسان عامة: ” الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)”
وضمن القسم الخاص بالإنسان عامة دور علم الكتابة وخطورته..والقلم بمعناه البشري وأهميته، والتعلّم والتدبر والفكر عامة والثقافة الإنسانية الراقية، ودور اللغة والبيان، مع معطى كون البيان نفسه تعليم إله وهو فصل في تاريخ اللغات مهم وخطير للبحث عن البيان الذي علمه الله للإنسان، ثم هل للإنسان بعد ذلك دور تطويري، وإن ثبت هذا الدور، وهو في الحقيقة ثابت، فكيف تم وما الحكمة الإلهية منه، مع اليقين أن كل نقلة علمية كانت بمشيئة الله وحكمته…

إذا خلاصة ما استلهمناه من آيات سورة العلق، أول آيات من القرآن نزلت على نبي الهدى والرحمة محمد صلى الله عله وسلم، كأول درس له، ولكل المؤمنين به، أن الله رب محمد خالق كل شيء وخالق الإنسان كريم مكرم علّم من خلق وعلّم الإنسان وخصّه بما شاء من علم، وبما لم يكن له أن يعلمه لولا فضل الله عليه وتعليمه له، والذي إن أراد أن يكون مكرما عنده الله فعليه أن يقرا باسمه، أي أن يقرأ معتمدا على الإيمان بالله والاستعانة بالله…وعلى العلم بالله..وهو جوهر ما نحن بصدده…لأنه إن قرأ دون ذلك لم ينل من كرامة العلم شيئا وكان مفتونا بما علم….فالعلم إذا ما كان بالله ومن الله..والعلم ما كان لله..وكل ذلك العلم لديه هدف واحد وغاية وحيدة: “العلم بالله”….
“لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)”

مقالات ذات صلة

في شهود البيت العتيق
وأنت بجوار الكعبة المشرفة، تشهد المشهد العظيم، ترى بعينك الطائفين، وترى بقلبك الأولين، وتنظر بروحك إلى وجوه النبيين، من آدم الأول، بعد أن تاب...
3 دقائق للقراءة
عن الحق والباطل
كل فضيلة تقع بين رذيلتين.الكرم بين البخل والتبذير.والشجاعة بين الجبن والتهور.وكل حق يقع بين باطلين: باطل يحجبه، وباطل يسعى لتزييفه. هكذا حدثتني الروح، وهكذا...
< 1 دقيقة للقراءة
في مقام الوالدين
عظم الله قدر الأم، وأبان عن عظيم شرفها في كتابه، وأوصى الإنسان بوالديه ووصّاه ببرهما، فقال عز من قائل: ﴿وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰ⁠لِدَیۡهِ حُسۡنࣰاۖ﴾ [العنكبوت...
2 دقائق للقراءة
وظيفة الاستغفار
وظيفة الاستغفارمن الوظائف الخاصة في الطريقة الخضرية العلية.مع صدق الرجاء وإخلاص النية في الدعاء، والتوجه القلبي الكلي إلى الله، والتوسل بمن للوسيلة ارتضاه.لها بفضل...
2 دقائق للقراءة
في حكمة القبض والبسط
في حكمة القبض والبسط والفناء والبقاء ومما يثير الدهشة في الحياة، قدرتها على التلون والتبدّل والانتقال من حال إلى حال، وهي في ذلك تأخذ...
2 دقائق للقراءة
لقاء على بساط المحبة
على بساط المحبة والأنس بالله، كان لقائي بالشيخ خالد بن تونس شيخ الطريقة العلاوية، وقد كان لقاء منفوحا بحب الله ورسوله، محاطا بسر أهل...
3 دقائق للقراءة
عن الطريقة الخضرية
قد يظن البعض ممن لم يطلع على الرسائل ، ولم يفهم المسائل، أن الطريقة الخضرية بدع من القول مما افترى على الأمس اليوم، وبدعة...
2 دقائق للقراءة
صم عاشوراء ولكن
كل عام أكتب عن عاشوراء، ويغضب الكثيرون.حسنا، لن أقول لك لا تصم يوم عاشوراء، لكن إن كنت ستصومه فلا تفعل ذلك ابتهاجا بنجاة موسى...
3 دقائق للقراءة
خطبة بين الروح والقلب
الحمد الله مبدي ما بدا، وهادي من هدى، الذي لم يخلق الخلق سدى.والصلاة والسلام على نبي الهدى، ونور المدى.من عز بربه فساد،  اتباعه رشَد...
< 1 دقيقة للقراءة
عن القرآن الكريم
ليس القرآن فقط مصحفا من ورق، عليه كلمات مطبوعة، تطال نسخه أيدي الآثمين.فيقرؤه قارؤهم والقرآن يلعنه، حتى يقتل خير الناس اغتيالا في المسجد وهو...
2 دقائق للقراءة