2 دقائق للقراءة
بعد ما بينته لك من تأملات في أول آي القرآن، فإني أرجع بك إلى آية افتتحنا بها هذا العلم الجليل وهي قوله سبحانه: ” فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ (19)”
هذه الآية كانت بوابتي لاستلهام واستنباط هذا العلم، فالعلم بالله كمفهوم عقائدي موجود ومثبت، ولكنه كعلم مفرد استلهام ونفحة أشرقت في قلبي من خلال هذه الآية، فالقلب حين يكون عامرا بالحب، وحين ينهل بحب من القرآن العظيم، مع ما تتلقاه الروح من صاحب سرها، وما أعده العقل لتيسير ذلك من معارف وقراءات، أمكن الوصول إلى إشراقات حقيقية، ليجد المتدبر العلم ييسر له، والفهم يقترب من ذهنه، وهذا الكلام فيه ما فيه حين يوجّه لمن يحفظ القرآن لفظا ولا يتدبره معنى ولا يستلهم ويستنبط منه كلمة، وحين يوجه أيضا لمن يختم القرآن في رمضان مرات ولا يتدبر منه آية واحدة، فليست العبرة في الحفظ بل في الحفاظ، وليس الأمر في القراءة البصرية فقط، بل في القراءة القلبية والعقلية فيصفو القلب وتسمو الروح ويُصقل العقل ويترقى…
الآية تحتوي أمرا ربانيا واضحا جليا بينا للنبي عليه الصلاة والسلام: ” فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ (19)”
وقد نزلت في سورة “محمد”، وهي في سياقها الكامل كآية كالآتي: “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)”
الآية وما فيها من أمر بالعلم أنه لا إله إلا الله، تفتح أبواب هذا العلم، فالعلم بالله جوهر العقيدة، فالتوحيد علم بالله حين يصبح توحيد عرفان وإحسان، أي معرفة يقينية ووعي حقيقي أن الله حق فكأنه يُرى فإن لم يكن يُرى فهو يرى، فذلك مقام الإحسان.
ولابد من فهم ما أراه ضمن سبر هذا العلم المستنبط من هذه الآية، وهو أن الإسلام لله مرتبتان، فالأولى ما أسميه “التسليم بالوجود”، ولكن بشكل عرضي، والثانية ما أسميته “التسليم للموجِد”، بشكل جوهري.
التسليم بالوجود يكون باللسان فتنطق الشهادتان بما يبين إقرارا بوجود إله أرسل نبيا، ولكن القلب لازال في غمرة ولا زالت عليه غشاوة فلم يصله نور الإيمان، وهي مرحلة الإسلام القولي العرضي، وهذه الآية خير شاهد: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)”
والطاعة هنا تسليم للأوامر وهو منهاج للوصول للإيمان الحق.
أما التسليم للموجد فهو بعد الإيمان، لأن الإيمان نور في القلب فعّله العمل وجسده الفعل فكان في النفس زكاة وفي الروح يقينا، فلا ريبة ولا شك، بل إيمان بالله ورسوله ومجاهدة وجهاد بالمال والنفس، فذلك ميزان الإيمان الفعلي والصدق الحقيقي، وهو درس يبينه الله بعد الآية السابقة:”إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)”