4 دقائق للقراءة
قال الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: “إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)”
هذه الآية رسالة من الله إلى المكلفين من خلقه والموجه لهم كتابه، رسالة على لسان نبيه، إقرار بأن الله رب النبي وربهم، وأن عليهم أن يعبدوه، والعبادة كل عمل وفعل يراد به وجه الله، فاعتقادي فيها أنها شمول وليست فقط ضمن الفرائض والشعائر وإن كانت أساسا، وذلك هو الفهم الذي أرتضيه لقوله سبحانه: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)”
هذا الإيمان والإقرار بالله سبحانه، ومن ثم عبادته، صراط مستقيم، أو هدي لصراط مستقيم، والصراط الطريق، المنهاج القويم والسبيل الرشيد، ورد ذكره في القرآن خمسا وأربعين مرة، ضمن هذه المعاني، ولعلي أفرد له مبحثا خاصا.
هذا الصراط الإلهي والطريق الرباني مستقيم، والاستقامة مطلب إلهي، ومقصد رحماني، فيها من أطر العلم الكثير، منها العقدي، ومنها الشرائعي، ومنها الذوقي، ومنها الأخلاقي، ولذلك سنرجع للاستقامة كلما كنا في أحد أطرها العلمية، ضمن مصفوفة منظمة منسقة متوازنة، ولكن ما يخص ما نحن فيه، فإن استقامة الصراط تجعله أسرع الطرق للوصول، فمعلوم أن أقرب طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم، ولكن السبل الأخرى ملتوية فيها متاهات وتلف، وهذا ما تجده في هذه الآية: “وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)”
وهنا يأتي السؤال حين يتعلق الأمر بما أسميته “صراط العقل” كمصطلح مبتكر خاص بعلم الله، وهو عن العلم، هل هو صراط مستقيم، أم فيه سبل، وما هو الصراط المستقيم للعقل، وإلى أين يؤدي..؟؟
طبيعي أنك تدرك من خلال ما ذكرت لك منذ بداية هذا المبحث العلمي، أو عبر تفكر إيماني ميسر، أن العلم بالله هو النقطة الثانية للعقل في انطلاقته نحو الحقيقة والرقي، وأن السبل التي لا توصل إلى ذلك هي إما طرق منقوصة أو فتن.
فالعلم حين ينأى عن الله يشقى صاحبه، وحين يصل إلى العلم بالله فقد بلغ غاية وجوده وقمة مبتغاه وجوهر حقيقته..فتكون الاستقامة وسيلة، ويكون الصراط المستقيم منهجا ومنهاجا…
علينا أن نبين لك قبل ذلك أن العقل عقول، وأن العقول التي لا ينيرها قلب مؤمن، تشقى كثيرا، وأن الكفار كانت لديهم عقول عطلها الكفر وعمى القلب، وقد كانوا يعرفون الله بتلك العقول، ولكن معارفهم لم ترق إلى العلم بالله، لأن العلم بالله لا يكون إلا لمؤمن، فانظر قوله سبحانه: “وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)”
فعنادهم منعهم من الإيمان، وغرورهم وحسدهم وجحودهم رغم معرفتهم بوجود الله ولكنهم يرفضون أن يبعث الله بشرا رسولا كأن
بل إنهم يرون أن القرآن نزل على رجل فقير، وأن من كبرائهم من هو أولى، كأن لهم الخيرة في ذلك، أو أنهم موكلون بقسمة رحمة الله: “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ (32)”
ولذلك نبه الله نبيه أن زعماء الشرك والكفر لم يكونوا في الحقيقة مكذبين له، بل كانوا جاحدين، فعقولهم تعرف، ولكن قلوبهم تأبى، فالجحود أن ينكر القلب ما عرف العقل من الحق: ” قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)”
وتجد ذلك في سورة يس وقصة المرسلين حيث قال المكذبون لهم: “قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)”
فهم ليس فقط يعرفون الله، بل يعرفون الرحمن، وهي منزلة من المعرفة أخرى، أي معرفة الصفة الربانية وليس فقط الاسم الرباني “الله”، لأن ا”لرحمن” منزلة أعلى من المعرفة، وهذا له سياقه في علمه وأوانه في “البرهان”، ولكن هذه المعرفة يعترف بها الكفار كلهم وهم في جهنم ضمن استباق إلهي لما سيكون ضمن حوار بين خزنة النار وأصحابها في سورة الملك العظيمة: ” تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)”
فهم رغم تلك المعرفة لم يكونوا يسمعون، والسمع بوابة معرفية كبرى، أو يعقلون، أي يفهمون ويستنبطون، وما ذلك إلا لتعطيل الكفر لعقولهم وأسماعهم وأبصارهم فذلك ضياع العقل عن الصراط المستقيم وتيهه في متاهات تودي به وبصاحبه إلى الهلاك والتلف والضياع، أو تحبسه دون عظمة الحق وروعة الإيمان بالله والعلم به، فكم من أهل العلم المادي اليوم يرى كل حين آيات الله ولكنه لا يؤمن ولا يعلم عن ربه شيئا بل يعتقد أن كل ذلك تطور للطبيعة وضرب من المصادفات والطفرات العشوائية!!!
إن صراط العقل المستقيم هو الإيمان بالله، ونقطة الانطلاق الأولى هي الإسلام لله، أما نقطة الوصول فهي العلم بالله، ضمن منهج من التدبر الإيماني والتفكر العقلاني والنظر العميق وحسن التأمل في كل شيء، وحين يبلغ العقل مهتديا بنور القلب بوابة العلم بالله، ثم سلك فيها مسلكه واستيقن الحق ولامسه وفهمه، اتحد يقين القلب بتيقن العقل، وصار ذلك مقاما من الإيمان العلمي بالله سبحانه، فالعلم بالله كما قلت لك مقام للإيمان وليس تجاوزا له، وهنا يكون القرار في القلب، حيث يستقر اليقين، ويكون العقل قد بلغ من الترقي ما أهله للتلقي، وهنا بوابات للعلم لا تحصى، وتيقظ للروح لا يخطر ببال من لم يجربه، وهنا تكون القراءة التي تحدثنا عنها في مستهل هذا العلم ضمن بعض معاني أول آيات القرآن قد وصلت إلى قمة مبتغاها، وجوهر جواهر طِلبتها، وإن لذلك منهجا وأطرا بينها القرآن العظيم، ولا تحتاج إلا لتدبر يربط بين الآيات ويستنبط منها ويبني عليها..فإلى بعض من الأطر المنهجية للعلم بالله…