3 دقائق للقراءة
قلت لك أن الحكمة في نظري هي سر النظام، أساس ثان للملكوت الإلهي، وليس كونها الأساس الثاني أنها أقل فضلا وشرفا من العلم، لأن الترتيب كما قلت تكاملي وليس تفاضليا.
الحكمة سر العلم، روحه الخفي وجوهره المحكم، وهي حُكم وإحكام وأحكام مُحكمة ومَحكمة لكل علم وفكر ورأي وعمل وفعل، فإن كان حكيما فقد بلغ الإصابة ونال المرام، وإن جانب الحكمة كان خبطا بلا انتظام.
الله سبحانه وتعالى حكَم حكيم، أنزل في محكم التنزيل من أفضل الحكمة وأرقاها، وجعل لنبيه منها نصيبا وفضلا، فربط بين علم الكتاب وعلم الحكمة والعلم اللدني لأن كل ذلك مقام تلق عظيم أساسه الحكمة التي تفسر الكتاب وتبين أحكامه وحكمه وتستنبط العلم وتيسر فهمه، فكأنك بالحكمة روح العلم، ومنهاج للكتاب: “وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)”
فهذا مجال للحكمة اللدنية، وضمنها ما أوتاه النبي عليه الصلاة والسلام من جوامع الكلم، وكذلك ما أوتاه نبي الله داوود من الحكمة في ارتباطها بفصل الخطاب: ” وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)”
فللحكمة علاقة بشؤون الملك وسياسة الحكم عامة، ولها ارتباط وثيق بالدعوة لله ونشرها، وهذا أمر إن أغفله حاكم أو داع ضاع حكمه وخابت دعوته، ولذلك أمر الله نبيه باستخدام الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل ربه: ” ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (125)”
فذلك درس رباني عظيم فيه روابط بتزكية الأخلاق ومناهج التربية ومقومات الدعوة لله، وفي تطبيقاتها العلمية المنهجية، والعملية التطبيقية.
والحكمة المحمدية بحر لجي نهل منه أصحابه وظلت نورا في عقول صالحي أمته، فذلك من فضل الله على المؤمنين: ” لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)”
وذلك تحقق دعوة خليل الله إبراهيم عليه السلام: “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)”
والحكمة نور رباني يهدي به الله من ارتضى، ويهدي إليه الله من أحب، منها ما يؤتي الله، ومنها ما يعلّم رسل الله، والحكمة المؤتاة روح لا اكتساب، أما الحكمة المهداة فهي علم وكتاب، ولقد رهن هبة الحكمة بمشيئته كما رهن هبة العلم بمشيئته، فلا يحاط من علمه بشيء إلا بمشيئة وحكمة، ولا تؤتى الحكمة إلا منه بمشيئة وحكمة: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)”
فهي خير وفضل ونور وبصيرة، ترشد العقل، وتقنن الفكر، وتضبط السلوك، وتمنهج العمل، وهي فقه للأمور وفهم ودقة نظر، وسعة اطلاع ومقدرة على الاستنباط والتحليل والاستقراء والتقصي، وهي على ذلك منطق صارم ونظر ثاقب وبيان حصيف، كما أنها حسن تدبير ورصانة تفكير وقوة صواب وفصل خطاب.
ولعل من أهم قضايا الفقه مسألة الحكمة والإحكام، فالإحكام حكمة الحكم، وبين الأحكام والإحكام تكون حكمة المتفقه في الدين ومقدرته الاستنباطية، وهو موضوع يطول شرحه، لعلنا نلامس منه بعضا في علم الفقه.
ولأن القرآن كلام رب حكيم، وكتاب حكمة عظيم، فقد أقسم به الله في مستهل سورة يس: ” يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)”
إذ فيه كنوز الحكمة، ونفائسها، وهو حكيم في أوجه يصعب إحصاؤها ورصدها واستقصاؤها، ولكن لكل متدبر من ذلك نفح ونصيب، ولكل عقل نير منه خير وموعظة وعبر.
وفي القرآن ذكر لحكيم رباني منحه الله من خزائن الحكمة ما شاء ولقنه وفهّمه فقال عنه: ” وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)”