3 دقائق للقراءة
فتفضيل الله خلقه بعضهم على بعض رحمة منه، كي يُعلم الفضل عند أهل الفضل فيُسعى إليه، ويُرى عكسه فيُتجنّب، لأن الأضداد تبين بعضها، وهداية الله لمن شاء رحمة، فذلك من كرامة الله على بعض خلقه، وتلك مرحمة ربانية عظيمة، وهو سبحانه من رحمته فضّل الأنبياء عقلا وقلبا على بقية الناس، كي يكونوا أسوة حسنة ومعلمين وهداة للحق والخير، فالتفلسف والإدعاء في هذا نقمة على العقل المحدود رغم غرور بعض أدعيائه، فهذا التفضيل تكريم ورحمة ربانية لا مساس لها بالعدل بل هي تحت أطر الرحموت الإلهي، لذلك كان أهل الفضل والعلم يدركون قيمة هذه الرحمة فيحمدون الله عليها شكرانا وعرفانا، فذلك شأن داوود وسليمان عليهما السلام: ” وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)”
وحتى تفضيله سبحانه للكائنات وللشجر ولكثير مما نعلم ومما لا نعلم فيه رحمة تدل على عظمة الخالق وقدرته وعلى فضله العميم وكرمه العظيم، بل إنه سبحانه يبين أن في ما فضل في الأرض وما أظهر من تفاضل بين الشجر وفي أنواع الثمر آيات لقوم يؤمنون ويتدبرون في ذلك فتأمل هذه الآية البديعة من بديع السماوات والأرض: ” وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)”
فهي الرحمة والقدرة والجمال والجلال والكمال والفضل والتعدد من المفرد فمن ماء واحد يخرج ثمر مختلف وحتى نفس النوع فالنخل أنواع وهكذا وصولا للفردية وكل ذلك دليل على وجود خالق واحد نوع كل شيء وهو مفرد سبحانه فاعتبر.
وحين نكون في حضرة الرحمة الربانية، فإن آيات من القرآن العظيم الذي نزله الله رحمة وشفاء ونورا، تشفي الغليل وتعطي الدليل، فانظر قوله ذكرا لا حصرا: ” وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)”
فانظر عظمة الرحمة ومكانتها، فلم يكتب الله على نفسه في القرآن إلا الرحمة، فهي ميثاق بين الله وذاته، عهد رباني عظيم، فليس أعظم دليلا وحجة على عظمة منزلة الرحمة عند الله من أن يكتبها على نفسه، إنه ميثاق إلهي عظيم، وبرهان جلي على منزلة الرحمة عند الله سبحانه، وهو القائل: “قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)”
وفي كل القرآن الكريم هاتان الآيتان نموذجيتان فريدتان محتويتان على أمر عظيم وميثاق قديم وعهد موصول بالرحمة كتبه رب السموات والأرض على نفسه، فهل يحتاج عاقل لأعظم من هذا حجة!!
الرحمة الإلهية فضل وخير، لولاها لهلك أكثر الناس، بل لما بقي على وجه الأرض كائن حي واحد، فانظر في آخر آية وآخر درس في سورة فاطر العظيمة: “وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)”
فهو سبحانه يرحم ويصبر على خلقه، ويؤخرهم إلى ميقات وميعاد وأجل محدد مسمى، فمن اهتدى سلِم وغنِم، ومن استكبر ذلّ وندِم….
فالتوبة رحمة، وصبر الخالق على ضلال المخلوق رحمة، وغفرانه للذنوب رحمة، ورأفته بخلقه رحمة، واستجابته لدعاء الداعي ونداء المضطر رحمة، وفي القرآن العظيم من ذلك فضل كثير فانظر وتدبّر…
والرحمة أساس سادس بعد العدل وفق رؤيتي للأسس، لأن العدل المحض مهلك للمذنب بالضرورة، فهي إطار للعدل، فعدل الله سبحانه ضمن رحمته، وهو التواب الرحيم، بيّن مدى رحمته وكونه رحمان الدنيا والآخرة في أكثر من سورة وضمن أكثر من آية.
وأهل العلم بالله يدركون قيمة ومعنى رحمته وشساعتها وعظمتها، فانظر أعلمهم بالله كيف يناجون الله: “الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)”
فرحمة الله التي كتبها على نفسه وسعت كل شيء، فهي شساعة ورحابة تفوق ما ييسر الخيال لابن آدم من تصور، ولكن الرحمة الإلهية مشروطة محسوبة بحسبان دقيق، ولئن كانت الشروط خاصة بأهل التكليف إذ رحمة الله أشمل وكل مخلوق وكل ما في الوجود -عدا أعداء الحق إنسا وجنا- ضمن رحمة الله.