3 دقائق للقراءة
والشرط والحسبان في الرحمة بالمكلفين قانون تجده في آيات كثيرة نستشف منها معنى من معاني الحسبان القادم في ما يلي من بيان، فسؤال حملة العرش لله عن رحمة للتائبين والذين يتبعون سبيل الله، لا لسواهم، ولعلك واجد حجة إن رجحّت النظر فانظر قوله مثلا لنبيه موسى الذي ناجاه وسأله: “وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)”
فهؤلاء المتقون والتائبون هم أهل الرحمة الربانية، فرحمة الله سبحانه رحمة حكمة وحسبان، وليست إفراطا ولا تفريطا، فلا رحمة للمجرمين وأعداء الله، الكافرين بالله ولقائه، فهم ملعونون مُبعدون، بائسون من رحمة الله يائسون، مفلسون وكحال إبليس مُبلسون: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)”
فأعداء الله يائسون من الرحمة محرومون منها وخارجون عن أطرها منضوون تحت لواء الجبروت والسطوة والنقمة الإلهية فالرحمن عليهم لا لهم ومحيط بهم لا معهم فليسوا في كنف الرحيم بل تحت سطوة المنتقم ذي الطول شديد العقاب، وتجد آيات الشدة والنقمة والقسوة والحسم مع هؤلاء كثيرة في كتاب الله فانظر، ولسوف تجدني أبين أوجها ضمن النقد المطلق في علم النقد.
وإن الهداية والإضلال بالمشيئة الربانية حكمة إلهية مهما بلغنا من الإدراك فلن نفهمها كليا…ولا يحتاج الله لمن يبرر له ما يفعل تعالى وجل وعلا…لكن الكلام من باب البيان، فالله يهدي من يشاء رحمة…ويضل من يشاء حكمة…وهو عدل في هذا وذاك..وهو الرحمن سبحانه…المتفرد بالرحمة المطلقة….فلا رحمة في قلب مخلوق إلا من رحمة الله..ومن تنزع من قلبه الرحمة فهو ميت القلب ولا خير فيه..بل هي قسوة الكفر وجفاف العين وجمود الفكر وانعدام الإحساس، فذلك شأن قوم غضب الله عليهم فكانوا من الحجارة أشد قسوة ومواتا: ” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)”
وإن الإنسان لو علم القوة الجبروتية لله سبحانه..ثم اطلع على شرور أهل الشر وصنائعهم..لرأى عظمة الرحمة الربانية ولعجب من صبر الله مع قدرته عليهم….فالصبر الإلهي رحمة عظيمة..ولعل في كون الصبور آخر أسماء الله الحسنى دليل على عظمة الصبر ومكانته لدى الله وخلقه، لكنه للخلق قوة يواجَه بها الضيم ويُتحمّل بها البلاء، وعند الخالق رحمة إذ الخالق لا يُضام، بل يصبر على العاصي حتى يتوب وعلى المذنب حتى يستغفر وعلى أهل الباطل حتى يرتدعوا عنه بعد فتنة، أو يؤخذون مفتونين، وعلى أهل الحق حتى يُنصر الحق بهم وفيهم بعد بلاء ومحنة، أو يلاقون ربهم صابرين…..
الرحمة إذا أساس جوهرية للملك الإلهي..إطار يتسع ولا يضيق، ولكن لديه خواص كثيرة، منها التخلل وهو اللطف فلا يدري الإنسان متى تأتي الرحمة الإلهية أو من أين تأتي، فمن ذلك الرحمة بالرزق وتيسير الأمور، والتي من شروطها التقوى: “وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)”
والرحمة الإلهية مشروطة بأمور محددة منها التقوى كما ذكرت واليقين الإيماني وإتباع سبيل الله كما رأيت في مناجاة حملة العرش وكلام الله سبحانه لموسى، وهي رحمة قريبة من أهل الإحسان والإيقان: “إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)”
رحمة مودعة في قلب نبي كريم فكان له أثر في تعامله مع أهل التكليف، وكان لذلك دور هام في نشر الإسلام والتعاليم المحمدية فلو أن القسوة الفظة قامت مقام الرحمة لما كان هنالك انتشار واستمرار، وإن في ذلك لحكمة عظيمة في نشر الدعوة تعطي دروسا للداعي لله كي يكون عامر القلب بالرحمة، وهي من دروس هذه الآية العظيمة من سورة آل عمران: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)”
والنبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم الذي أودع الله فيه هذه الرحمة العظيمة، هو في ذاته ورسالته وكيانه رحمة محض، فانظر قوله سبحانه في آية بينة المعنى جلية المضمون ثابتة الحكم واضحة البيان: ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)”
إنه تحديد وتوضيح لجوهر المهمة وحقيقة الذات المحمدية، رحمة للعالمين مرسلة من رب العالمين، فذلك محمد كما أقرّ رب محمد، وما الصلاة عليه من الله وملائكته وأمر كل مؤمن بها إلا رحمة عظيمة، فصلى الله على محمد الرحمة المهداة وإمام الهداة….