4 دقائق للقراءة
كما تجد اختزالا لذلك وتبيانا للحسبان في آيتين عظيمتين حسبانيتين سبحانيتين فيهما من سبحاته سبحانه ومن حسبانه جل شأنه وتجد ترسيخا لذات الكلمات مع تغيير حسب المجال والسياق فهي آية واحدة أعاد الله ذكرها مع تعديل لها وفي ذلك حكمة وروعة ومقدرة وبيان وبرهان، فسبحان عظيم الشأن الرحمن، فأما الآية الأولى فقوله في سورة يونس: ” وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)”
وأما الثانية فمن سورة سبأ: ” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)”
فأنت ترى أن قوله سبحانه: في كلّ من الآيتين، وهو بيان حسباني إذ الله سبحانه لا يعزب (أي لا يغيب) عنه شيء في السموات والأرض مهما كان ولو مثقال ذرة (تطور المعنى من علم معنوي فسّر الذرة على أنها النملة الحمراء التي لا وزن لها أو حبة الخردل، إلى علم تكويني وهو في نظري علم الذرة وجزئياتها الوزن الذري وتعقيداته، ثم وجود ما هو أصغر من الذرة وما هو منبن منها وأكبر ضمن ذلك الكون الذري الذي لم يكتشف إلا منذ حين في زمن بني الإنسان العلمي المدون، وهو درس في تطور التفسير وفق التطور العلمي).
لكن الاختلاف أن الحسبان الأول (آية سورة يونس) مشاهد لحال النبي وجميع شأنه، ولكل عمل يقوم به المؤمنون والناس عامة ووجود شهود معاينين، وقد يكون قوله سبحانه “كُنَّا عَليْكُم شُهُودا” ضمن معنى عزته وجلال ذاته، أو ضمن معنى الله وملائكته. أما الثاني (آية سورة سبأ) فغيبي عن الساعة، دحضا لدعوى الكفار، وتأكيدا لقدرة الجبار، وفي الحالين فالله سبحانه لا يغيب عنه شيء مطلقا مهما كان، فهنا بابان للحسبان الغيبي والمشاهد وأمور قد تراها في علم التماهي وضمن علوم الكشف والمشاهدة، وإن مثقال الذرة يدعمه مثقال آخر فيه تجل لعظمة الحسبان الإلهي في ارتباط في العدل وكنت ذكرت الآية في إطاره وصرحت أني معيد لها في هذا الإطار الحسباني وهي قوله سبحانه: ” وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)”
فسبحان الله ما أرعوها من آية، وما أعظمه من عدل، وما أدقه من حساب، وما أجله من اكتفاء، وما أظهر الحجة، وما أوضح البينة، وما أقوى البرهان، ضمن الحسبان الإلهي وضمن الدقة والقدرة والإحصاء الكلي، ما يعجز عنه بياني ويسبح بحمد الله به كياني.
كل ما بينت لك من الحسبان، فالحسبان نظام رباني وجوهر ملكوتي، وهو أيضا نظام فلكي وكوني دقيق ضمن مدارات وتحركات كونية لو أنك نظرت في آخر اكتشافات العلم بتقنياته الحديثة وما كتبه علماء مختصون عن دقة النظم والحسابات الكونية ضمن دقائق زمنية ومكانية وحركية وحسابية وتوازنية على غاية الدقة والتعقيد والانضباط الحسابي المذهل، لتيسر لك ببعض الربط واليقين الإيماني رؤية جانب من عظمة الحسبان الإلهي.
ويبقى العقل قاصرا مهما أوتي من آليات عن إدراك شمولي للحسبان، لكن علم الفلك تحديدا مع فنون في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم التكوين البشري في تركيبات جسمه وخاصة حمضه النووي من الأمور والعلوم التي تكشف من دقائق الحسبان الإلهي، وفي كل مرة يذهل العقل باكتشاف جديد في هذه الميادين خاصة فيقنن ما استطاع ويترك ما لم يستطع نظريات عامة أو مجرد أوراق بيضاء من الحيرة، فإن العلم البشري سيقطع زمنا طويلا قبل أن يدرك تفصيلا كليا سر هذه الآيات: “الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)”
فهي آية عظيمة من سورة عظيمة، وعلم التفسير القرآني في هذه الأطر العلمية يحتاج علما ونظرا وأخذا من فنون العلم المتوفرة لتعميق الفهم، لكنه يظل فهما محدودا بحدود العلم البشري نفسه، ولئن مكن الله له بعضا من الفهم جعل أهل هذا الزمان أكثر فهما للآيات المتعلقة بعلوم التكوين من سابقيهم.
والملاحظ لدي أن في الآيتين حسبانا عظيما فيه علمين أساسيين ضمن الحسبان هما الحسبان الظاهر والحسبان الباطن، وهنالك متعلقات مكانية وزمانية له، وغيرها كثير، فالماضي حسبان ظاهر لما ظهر وكان، والآتي حسبان باطن لما خفي في المقادير، وفي الآتين التي ذكرنا وما بعدها سر أستشفه الآن وأنا أدون هذه الكلمات، فتأمل قوله سبحانه: ” الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)” ..
الأولى حسبان ظاهر يمكن البحث والتقصي فيه بالعقل والآليات المختلفة خاصة عبر علم الفلك….ويمكن النظر في موازين السماء العجيبة مع تأمل في الآية الموالية لما سلف: “وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)”
أما سجود النجم والشجر فحسبان باطن لا يمكن للعقل قياسه والتأكد منه ومشاهدته، فمن من الناس رأى نجما او شجرا ساجدا أيا كان معنى السجود، فهو من الحسبان الباطن في اعتقادي، فهنالك عدد لا يمكن تصوره لنجوم السماء وأشجار الأرض وكذلك لسواها وكل هذا ساجد لله معترف بوجوده وكل هذا أحصاه الله عدده ظاهرا وأحصى تسبيحه باطنا فإن أردت أن تمضي قدما رأيت أنك روح وأنك في النوم يتوفى الله نفسك ويبعثها وأن أحلامك ورؤاك بنسق معين إن كنت تدرك أو لا تدرك، وكل هذا حسبان باطن، وأن الكون كله يسبح لك شيء بحسبان وسر ونظام خفي يعجز العقل عن فهمه، وكل ذاك حسبان باطن….فانظر إلى هذه الآية في إطار علم الحسبان: ” تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)”
فإن حسبان هذا غير مدرك عقلي ولا مشاهد أو ملموس، لكن الإيمان بصدقية الآيات القرآنية حجة على حقيقة الوجود وإن لم يقدر العقل معاينة فإنه بالإيمان يتمثّل تيقنا..وهنا لا بد من ربط بمعنى الآيتين من يونس وسبأ عن الحسبان المشهدي والحسبان الغيبي، وهو أمر ضمن الزمان والمواكبة أو السبق بشكل حسباني دقيق، فيكون الحسبان الظاهر والحسبان الباطن مكانيان، والحسبان المشهدي والحسبان الغيبي زمانيان، وهذا في اعتقادي جوهر جامع.