3 دقائق للقراءة
وهذا الكلام جوهري في فهم علم الربط، فهو شد قوي، وارتباط وثيق، وكل مسالة علمية أو مفهوم فكري أو موجود في الكون ربيط بسواه، وهنالك بالضرورة مِربط منطقي أو مفهومي أو مدلولي أو مادي أو معنوي، وهنالك كذلك مَربَط محدد، ومِربط معين، مكان اتصال وارتباط وتلاقح، وهذا ينطبق حتى على الأشخاص والأفكار بين الذوات، وتطبيقاته الكثيرة جدا، فالروابط اللغوية مثلا بين الدال والمدلول مهمة جدا وجوهرية في اللغة، فدال معين يرتبط لغويا بمدلول محدد، وذلك المدلول لغوي متغير حسب اللغة ولديه ارتباط بصورة ذهنية محددة، أمر بينت بعضه ضمن فلسفة اللفظ في كتابي “تأملات فلسفية”، وربما أفيض فيه في سياقات أخرى، منها علم اللغة.
وكذلك الربط ضمن التركيبيات الكيماوية وترابط الذرات وترابط الأدوية وتركيباتها وترابط الحمض النووي داخل الإنسان وترابط نظام الخلية وترابط النظام العصبي وترابط وظائف الدماغ والحواس، ولي عود في علمي الطب والإنسان، ثم ترابط العوالم والأبعاد والأزمنة، ما سأرجع إليه في سياق العلوم المعنية بها..
ولكل ترابط مجال للانفصال وإعادة الربط، فالفصل والربط مهمان جدا، وعلم الفصل أبينه ضمن علوم الأبعاد، وإن كان أشسع من ذلك، فأنت ترى كيف ترتسم ملامح هذا العلم الذي لم اقرأ عنه في كتاب ولا سمعت به من قبل، فهل حقا أن الإنسان يبتكر من الصفر، ام يبني على ما هو موجودن أم هو بكل بساطة..كائن مُلهم..وهنا بحث عن فاعل الإلهام، كي لا نتوه خلف من نسب إلهام الشعر إلى الشيطان فيقال شيطان الشعر، وكيف لشيطان أن يلهم البردة مثلا وروائع الشعر ورقائقه.
أما في القرآن الكريم، فقد جاء الربط ضمن السياقات التالية:
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)”
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)”
” وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)”
” وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)”
” وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
وكل هذه الآيات، عدا آية “رباط الخيل”، تندرج ضمن فرع أساسي من علم الربط أسميته “علم الربط الرباني”…ولكن الآيات كلها تحتوي على ما سميتهما الربط الروحاني والربط القلبي وهما ما أستلهمه من الربط على القلوب وتثبيت الأقدام، والرباط ورباط الخيل، فالربط الروحي والقلبي، وهو ربط إلهي بسر مودع في الروح وفي القلب، والرباط في سبيل الله يأتي بعد ربط الله على القلب، وهو جهاد للنفس وللعدو، وقد ورد في لسان العرب: “الرِّباطُ في الأَصل: الإِقامةُ على جِهادِ العدوِّ بالحرب”، ولكن له مدى أوسع وأشسع فمنه قوله صلى الله عليه وسلم: أَلا أَدُلُّكم على ما يَمْحو اللّهُ به الخَطايا ويَرْفَعُ به الدرجاتِ؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: إِسْباغُ الوُضوءِ على المَكارِه، وكثرةُ الخُطى إِلى المساجِد، وانْتِظارُ الصلاةِ بعد الصلاة، فذلِكم الرِّباطُ”، ومنه تسميات الرباط فنجد في تونس مثلا رباط القيروان ورباط المهدية ورباط المنستير، وكذلك مدينة الرباط عاصمة المغرب التي بناها الموحدون في أواسط القرن الثاني عشر للميلاد، ودولة المرابطين التي حكمت شمال غرب أفريقيا والأندلس ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد، والتي امتد حمكها من شمال غرب إفريقيا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية وجنوب الصحراء، واتخذت عاصمة لها فاس فمراكش. والتي كان فيها رجال يرابطون للجهاد في سبيل الله ويوسف بن تاشفين أهمهم، ومعركة الزلاقة الشهيرة في الأندلس شاهدة على حقيقة القوة الإيمانية لمن ربط الله على قلبه وارتبط بربه وتحلل من روابط الفناء.
تخريج الآيات: آل عمران، الأنفال، الكهف، الأنفال، القصص