17 دقائق للقراءة
في القرآن الكريم سرد مستفيض لقصة موسى وفرعون، والعجيب الجمع بين الاسمين في سياق واحد رغم أنهما نقيضان، ليرى الناظر من خلف ذلك حكمة الله في ضرورة وجود فرعون ليكون لمهمة موسى معنى، “وبضدها تتمايز الأشياء”.
“طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)”القصص.
وإن دراسة شخصية فرعون في جوانبها النفسية، وبناء على الانفعالات والأفعال التي صدرت عنه، تمضي نحو مسار واحد: سيطرة الوهم بمختلف أنواعه: وهم القداسة، وهم الربوبية، وهم القوة، وهم الخلود الدنيوي….
قوة الوهم المسيطر على هذا النموذج الأكثر شيطانية في تاريخ البشرية ومن كان على شاكلته هي قوة كبيرة لا فكاك منها، إذ أن محركها ليس من ذات من وقع فيها، ولا من طبيعة قوة في الوهم نفسه، بل من قوة الذي قدّر وسطّر فهدى من شاء وأضل من شاء، وحال بين عبيد وقلوبهم، وجعل لهم على سمعهم وبصرهم غشاوة، وختم على قلوبهم.
فرعون الذي انتهى به المطاف إلى وهم أنه “الرب الأعلى”، كان له وهم يتصل بما تلقفته الجن والشياطين ونفثت في عقول المنجّمين فكان كالنبوءة: “مولود من بني إسرائيل في عام محدد سيكون هلاك فرعون وخراب ملكه على يديه “. ولعلها كانت نبوءة فعلا قالها أحد أنبياء بني إسرائيل أو صالحيهم قبل نبي الله موسى، أو النبي يوسف نفسه، ومصداق الأمر أن ذلك العام الذي أشارت إليه النبوءة وتكلم عنه المنجمون كان عام مولد موسى فعلا.
إن فرعون ومن كان مثله لا يمكن أن يقبلوا بالقدر حتى لو قرؤوا اللوح المحفوظ واطلعوا على الغيب، فشيطان العناد الذي يركبهم يعميهم ويزيّن لهم تحدي الخالق نفسه، يمنعهم من الخضوع ويحول بينهم وبين لحظة ذكر وخشوع. وعليه كان مخطط فرعون سريعا ضمن “وهم تغيير القدر”: اقتلوا كل مولود جديد.
وحين كان جنود فرعون الظالمون البغاة ينتشرون في كل بيت من بيوت بني إسرائيل يقتلون كل رضيع يجدونه، كان قلب أم موسى في فزع شديد، وهنا يرد السرد القرآني بالخبر اليقين في شأن تلك اللحظات الدامية المفزعة:
“وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) ۞ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ(12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)”.
يسعى فرعون عبر قتل كل رضيع إلى قتل من تتعلق به النبوءة وإلى تغيير القدر، ويدبّر القدير الأمر فينقذ الرضيع بما أوحاه إلى أمه وبأمور ظاهرها الهلاك فيها إلقاء في اليم ثم أخذ الجنود له إلى قصر فرعون نفسه، ويلقي المحبة في قلب امرأة فرعون التي خصّها بالإيمان، ثم يرجعه إلى أمه بعد أن حرّم عليه المراضع وبعد أن مكّن لأخته من حكمة إعادته، ويتربى الطفل الموعود في قصر فرعون نفسه وأمام ناظريه وهو لا يشعر، ليكون أثر الصدمة في اللقاء الذي يتم لاحقا مع آية العصا واليد البيضاء عنيفا جدا على فرعون وهو يرى انهيار وهم تغيير القدر وأن النهاية آتية لا محالة، لكنه يكتم ذلك ويزداد عنادا وعلوّا واستكبارا، ساعيا بسرعة نحو تحقيق النبوءة، راكضا نحو حتفه الذي يلقاه بين قسمين من البحر كالطود العظيم يدلف بينهما بسرعة عربته الملكية وخيله المختارة لذلك الحتف الموعود.
سرعة وقدر ونفاذ سيتكرر في نماذج كثيرة ولكن المعني بها أساسا أهل الزمن الأخير وفرعون الزمن الأخير الذي يزداد تسارعا وقدرات وتقنيات تسرع به نحو نهايته.
تناسى فرعون في حمّى وهمه لتغيير القدر أنه يحارب الله جلّ في علاه، وأن القدر نافذ وقضاء الله لا يمنعه شيء، وأن الكتاب الذي جعل الله له أجل لا تبديل ولا تحويل فيه.
بل إنه قد مكر بكل وسيلة واتخذ كل حيلة وأحاط نفسه بكل فاسق وفاسد وشيطان يملي عليه ما يقرّبه من حتفه وما يزيده ظلما وعنادا.
لو أن أحدا من أهل النظر الظاهري دخل إلى قصر فرعون ثم نظر إليه لرأى ملكا عظيما وسلطانا مُهابا أحاط به الجند والحاشية ولبس الذهب وامتلك الكنوز وابتنى أعظم القصور وملك الأرض من حوله ودانت له رقاب الناس خوفا وتزلف إليه الطامعون وخشي بطشته رعيته.
ولو أنه سأله عن أمر الرضيع من بني إسرائيل والنبوءة لصرّح أنه لا يخشاه ولا يخشى النبوءة ولا إله بني إسرائيل، فهو إله أيضا، فهل يخشى الإله أحدا، او هل يقدر عليه من أحد.
ولو نظر ذلك الناظر إلى ميزان القوى لبان له الأمر جليا واضحا: من المحال تحقق تلك النبوءة، فكيف يمكن لنبي إسرائيل وهم عبيد فرعون أن يهزموا فرعون يوما، بل كيف لواحد منهم أن يقهره ويُزيل سلطانه، إن ذلك نوع من الأساطير والخزعبلات البالية.
لقد كان لدى فرعون ما يحمي ذاته ويحفظ ملكه ويقضي على كل ثورة ممكنة: من الجنود الجبّارين والجيوش الجرّارة، والوزراء الماكرين وكبيرهم هامان، والمال الكثير والكنوز والقصور والحصون، ومن الخونة المندسين في بني إسرائيل، من أهل الخسة والنذالة والطمع، ومن أهل الفُحش والثراء والترف الذين بغوا على قومهم وعلى رأسهم (قارون)، وهؤلاء سيتمظهرون بعد هلاك فرعون وسيستمرون بشكل أشد وأكثر دناءة وقسوة إلى تحقق وعد آخر الزمان.
كان فرعون في ظاهر الحال منيعا غير قابل للهزيمة، في عز الجاه والملك والسلطة، وكان ميزان القوى يميل لصفه بشكل مادي واقعي جلي لا لبس فيه، وكذا يميل لدى فرعون الزمن الأخير.
وكان الذين صدر الوعد فيهم وكانت النبوءة متعلقة بأحد أبنائهم في حال من الضعف والقهر والغَلبة التي لا يمكن بموازنة القوى المادية أن يكون لهم انتصار مطلقا ولو بعد ألف عام، وكذا حال الموعودين بالانتصار في وعد آخر الزمان فهم في حال قهر وضعف واستعمار وفتنة وتمزق.
والعجيب أن الذين كان وعد ولادة موسى وزوال فرعون يتلعق بانتصارهم، تعلق وعد الآخرة باندثارهم، وأنهم سيكونون أشد وأطغى من فرعون الأول، وأن فرعون الزمن الأخير سيكون منهم أو سيكون تجسدا لهم جميعا ولمن حالفهم.
فسبحان من بيده مقادير الامور وحكمتها.
ولو أننا تصورنا صاحب نظر باطني (الخضر مثلا) يدخل إلى قصر فرعون وينظر في عينيه نظرة بسر أهل الباطن، لرأى عبدا وضيعا يرتعد من الخوف ويحسب أنفاسه.
لعل ذلك في أول الوعد (يوم ميلاد موسى) لعلمه أن لبني إسرائيل راعيا، لأنهم أحفاد النبي يوسف الذي كان له فضل في تاريخ مصر القريب منه، وأن الرب الجبار القادر على كل شيء “حقيقي”، وأنه النبوءة ستتم لا محالة.
لكن تمظهر باطنه على ظاهره عكسي: كلما اقتنع أكثر في أعماق نفسه كلما أظهر القسوة والكفر والطغيان وازداد ظلما وبغيا.
إن إقدام فرعون على تلك المذبحة وقتل الرضّع من بني إسرائيل برهان على خوفه ودليل على ضعفه، فهل من دليل على ضعف فرعون الزمن الأخير من نبوءة الزمن الأخير وتجلي ذلك عليه عكسيا في ظلم وبغي وقتل ومكر وفتنة، ورغبة محمومة موهومة في “تغيير القدر”.
حين يجتمع وزير أو قائد جيش مع “هامان” ويتناقشان في أمر النبوءة سيقول هامان واثقا: “بأية قوة سيتمكن من هزمنا مولود من بني إسرائيل المستضعفين الذين لا قوة لهم، ولا جيش، ولا دولة، ولا شيء، هو أمر محال حتما.
نحن نثق في جيشنا وقدراتنا العسكرية وتحصيناتنا، وقد زرعنا الفتنة في أعداءنا واستضعفناهم وجعلنا “قارون” سيّدا باغيا عليهم، وبثثنا فيهم العيون والجواسيس.
اطمئنوا. كل شيء تحت سيطرتنا وخاضع لقوتنا التي لا تعدلها قوة على وجه الأرض كلها. ونحن في رفاه ونعيم لن يزول بقوة فرعون العظيم.
وجلالة الفرعون المعظم يرعاكم بنظره ويبارك لكم سجودكم له وخدمتكم الصادقة”.
ونفس الخطاب سيلقيه هامان الزمن الأخير حين تتم مناقشة نظرية المخلص الذي سيرد الأرض لأهلها ويملؤها عدلا ويقضي على الغاصبين ويتم الله على يديه وعد الآخرة الذي ذكره في سورة الإسراء، بثقة أكبر وغرور أشد وإمكانيات لم يكن يتصور هامان الأول أنه موجودة ولو في أقوى خيالاته جموحا.
ولعل فرعون وهو ينظر إلى ملكه وقصوره وجنوده، ثم يلقي نظرة على من يستعبدهم لن يرى بعناد عقله وجحود نفسه وغرور سلطانه إمكانية واقعية لأي تحقق للنبوءة، رغم الخوف الذي ينخر روحه.
لقد كان فرعون غارقا في أوهامه التي أودت به إلى الغرق في البحر، لكأن إغراقه في النهاية كان نتيجة غرقه في الوهم منذ البداية.
وإن اليقين الصادم الذي يجب أن نصدع به هنا، هو أنه ما من مخلوق خلقه الله إلا وجعل في أعماقه يقينا راسخا أنه لا إله إلا الله، وأنه القوي العظيم، وأنه قادر على كل شيء، وأن قدره نافذ لا محالة.
ورغم هذا المعطى الرباني القلبي الباطني الأكيد، فإن فرعون الجاحد استمر في العناد، رغم يقينه حين رأى العصا تنقلب إلى أفعى ومس قلبه الهلع أن الأمر حق والوعد أكيد، وأن القدر نافذ، ثم حين رأى اليد تنقلب بيضاء، وحين ابتُلي وقومه بالطوفان والجراد والدم والضفادع والآيات كلها، لقد وجد حينها تفسيرا للخوف الذي كان يسكن روحه منذ ان سمع النبوءة أول مرة.
والبرهان على أن فرعون وقومه كانوا على يقين من أن كل آية هي حقا من الله، وأن موسى نبيه المرسل من لدنه بالحق والبيّنات والبلاغ الذي لا ريب فيه، مما يعني أن النبوءة حق والوعد حق وأن الهلاك قادم إليهم لا محالة، ما ذكره الله سبحانه في مناظرة موسى وفرعون، وكذلك في سرد ملخص الأحداث وصولا لإغراقهم:
” وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) (الإسراء).
ففرعون يدعي أن موسى مسحور بمعنى تعلّم السحر وأتقنه، ولكن نبي الله موسى يقول له لقد علمتَ يا فرعون وأيقنت وأدركت أن هذه الآيات ما أنزلها إلا رب السموات والأرض، ولكنك مثبور مقطوع عن الحق ممنوع منه مختوم على قلبك وسمعك وبصرك، وهالك مغلوب لا محالة.
كل ذلك رسّخ عنده اليقين ولكن تجلي ذلك عليه كان عكسيا: كلما أيقن أكثر، كلما بغى وطغى واستكبر أكثر.
وكذلك برهان يقين فرعون وقومه سلوكهم: فهم حين يكونون في خير ينسبونه لأنفسهم، وحين يكونون في شر يتطيرون بموسى ومن معه ويلعنونهم ويسبونهم في نجواهم.
وكلما جاءت آية من الله وسلّطها على رقابهم، وعجزوا عن الفكاك منها، وعلموا أنها من الله، لبسوا قناع الخضوع ومضوا يتوسلون إلى موسى كي يدعو “ربه” بما عهد عنده، إشارة منهم إلى نبوته التي يوقنون بها، ولم يقولوا ادع لنا ربنا لأنه ربهم أيضا ورب الخلق كلهم، إمعانا منهم في الدناءة والخبث والكفران والجحود، ونموذجا للتلون والنفاق والانتهازية.
فهم رغم يقينهم وتوسلهم حين تضربهم آية، ووعدهم الكاذب لنبي الله موسى بأنهم إن كُشف عنهم الضر سيؤمنون به، وبتحرير بني إسرائيل من العبودية وتركهم يمضون معه، يرجعون للكفر والعناد والظلم والبغي إذا كشف الله عنهم ذلك وينكثون عهودهم ويخلفون وعودهم، حتى أصابهم الفناء والهلاك الماحق ونزل عليهم سخط الله ومسهم غضبهم وأحاط بهم انتقامه فأغرقهم في البحر جميعا، وكذلك فعل من أخذوا عنهم تلك اللوثة وكانوا لهم عبيدا، فذلك جانب من تكوين شخصية التفرعن والعناد والنفاق لدى فجرة بني إسرائيل في المراحل الموالية المتتالية مع أنبياء الله منهم ومع النبي الخاتم ومع قومه ودينه وصولا لوعد الآخرة واندثارهم تماما كاندثار آل فرعون الذي كانوا يسومونهم سوء العذاب كما يفعلون هم اليوم بأهل فلسطين:
“وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) (الأعراف).
وكل هذا نموذج بشري تكرر ويتكرر نفاقا وانتهازية ونكثا للعهد واستكبارا بعد يقين وطغيانا بعد ذل، وله اليوم وجود أشد وإن كان بصور أخرى، ومصيره الهلاك في النهاية بصور شتى أيضا حتى يأتي وعد الآخرة ثم تأتي الساعة وهي أشد، وسيكون له تمظهر قريب بآيات وعد الآخرة وآيات القيامة كالدخان ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج، فانظر كيف بيّن الله نفس النموذج فيه تمظهر مستقبلي عند ذكر آية الدخان، والعجيب الذي فيه عبرة عظيمة أنه سبحانه يرفق ذكر ذلك بخبر فرعون وقومه وقصة النبي موسى ضمن ربط لا يخلو من معان وعبر لمن فكر وتدبّر، أليس في ذلك برهان ما ذكرناه من أن القصص الماضية في القرآن إشارات لأمور مستقبلية حتمية ضمن قانون واحد وسنة واحدة، فلنتأمل آيات الدخان وما فيها من إشارة إلى أمر الله الحتمي ووعده الأكيد (الذي يعني الساعة ويعني ما قبلها من وعد الآخرة ويوم الدينونة ودمار الحضارة الأخيرة التي تجمع كل فجور الأمم والحضارات السابقة ثم تكون أشد فجورا وقوة وبغيا وكفرا وتحديا لله)، وإلى أشراط لا شك أنها ستأتي وآيات لا ريب أنها ستظهر، وموعدها يقترب كل يوم أكثر، ولعل بيننا وبينها أقل مما نتصور، ولكن البشرية اليوم عنها في عمى قوم فرعون وقوم نوح وصالح وهود وشعيب ولوط، بل وأشد عمى منهم: “فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) (الدخان).
وإن آية الدخان عظيمة مرعبة، تكون على كامل الكوكب، ولكن من يشهدونها سيراوغون مراوغة آل فرعون حين رأوا الآيات التسع (وللرقم تسعة سر قهري تجده أيضا في التسعة المفسدين من قوم صالح ومن شابههم رقما وفعلا)، فهم رغم كل ذلك عائدون لغيهم وبغيهم، والله يذكر كفرهم وكفر سلفهم بنبيه الكريم صلى الله عليه وعلى آله شأن كفر من سبقهم بأنبيائهم وكفر قوم فرعون بموسى، وبعد ظهور الآية ونفاق من رأوها وعنادهم وتحديهم وظلمهم وعلوهم بغير حق وتوهمهم أنهم الأقوى والأعلم، سواء كان فيها عذاب لهم كآيات موسى، أو كان فيها امتحان لهم كناقة صالح، أو خدعة حربية ربانية كضيف لوط، بعد كل ذلك تكون البطشة الكبرى . (وهما بطشتان واحدة بوعد الآخرة والثانية بالقيامة كما سنفصل في مقال وعد الآخرة)، ويأتي انتقام الله من الظالمين جميعا على امتداد التاريخ الآدمي وما قبله، في لحظة معينة مباغتة خاطفة رهيبة مرعبة لا يمكن تصورها ولا يتم تأجيلها أو تقديمها ساعة، بل ولا حتى بجزء من الثانية.
وهذا قانون إلهي في الكتاب لا تبديل له ولا تحويل، وهذه الأمة البشرية لا تخرج عنه ولو توهمت ذلك كما توهم من كان قبلها.
” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)” (الأعراف).
ثم إن الحق جل وعلا أورد حقيقة يقين فرعون وقومه بنبوة موسى وبوجود الله وبكل تفاصيل الوعد الناتج عن ذلك بلفظ اليقين نفسه بل بما هو أعمق منه وهو الاستيقان (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)، لان اليقين قد يكون بالغيب، لكن الاستيقان يكون بالمشاهدة والبرهان المحسوس الملموس.
ولكنهم رغم ذلك جحدوا ظلما وعلوا في الأرض: “وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) (النمل)
وهذا نموذج متكرر أيضا في سوابق قوم فرعون وفي لواحقهم ضمن المصطلح القرآني الدقيق والرهيب (عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) وفيه عبرة عظيمة وقانون رباني نافذ ومستمر: فكل من جحد مع اليقين سيكون هلاكه حتميا لا محالة.
فعاقبة كل المفسدين الهلاك بتدخل رباني مباشر، ولو أجّل الله سبحانه موعد بعضهم إلى جيل محدد وأمة معدودة كما هو شأن البشرية منذ البعثة المحمدية، وشأنها منذ رفع المسيح، بل إن وعد بني إسرائيل وتأجيله كان منذ نبي الله موسى.
فانظر اليوم كم آية رأوها وصوروها ووثقوها وكم برهانا ربانيا في العلوم وفي ما تم رصده كونيا وفيزيائيا وكيمائيا وفي جزيئات الذرة وعوالم الكم وفي جزئيات وتكوينات الانسان والحيوان من خلاياه وحمضه النووي وسوى ذلك، ولكنهم يخرجون على الناس بخزعبلات أن كل ذلك برهان على أن الخلق لا يحتاج إلى خالق وأن الأمر لا يعدو عن عشوائيات وتطور أعمى.
فهؤلاء اليوم يجحدون رغم جلاء البينة، ويُلحدون رغم وضوح البرهان، كما كان الذين من قبلهم يشركون رغم اليقين أن الله حق: “أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)” (الزمر).
ثم هم اليوم في وهم إلحادهم وترفعن أنفسهم وادعاءهم الالوهية باسم العلم المادي ومناطحتهم للقدر نفسه وقولهم أنه يمكنهم بعد فترة أن يكسروا الزمن ويسافروا فيه عودا للماضي أو مضيا للمستقبل، بل وتغيير التاريخ وتعديل مسار الآتي والبقاء في الحياة للأبد وترك الأرض التي هي محط الخلافة إلى كواكب أخرى لم يكتبها الله لهم ليتخذوها سكنا دون نظر إلى خالق بل يسخرون ممن يقول لهم إن الله حق ويرمونه بالهلوسة والتخلف والجهل، معلنين بين الناس في كل منبر أنهم اقتنعوا ببراهين “العلم” أن لا وجود لله.
ثم ترى بعضهم يقول أنه يكره الله ولا يؤمن به لأنه “شرير ولا يستحق العبادة” كما صرّح دوكينز زعيم الملاحدة وزمرته في لحظات جنونهم التي ينزعون فيها أقنعة الحكمة والعلم الزائفة التي يرتدونها طوال الوقت، فيكشفون أنهم في أعماقهم يعلمون أن الله حق، ولكنه عناد إبليس الذي كان يعصي ربه ويتوعد بإغواء كل بني آدم إلا العباد المخلَصين منهم وهو يقسم بعزته: ” قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)” (ص).
وكل هذا الإلحاد استكبار وجحود مع استيقان، والاستيقان أشد من اليقين نفسه.
ولكل ذلك ناتج واحد: عقاب رباني شديد ضمن ذات السنة التي كانت في الأمم السابقة، ومنها نموذج فرعون وقومه الذي نحن في طور تحليله.
إن فرعون في مسعاه المريض لتغيير القدر وإبطال النبوءة والوعد قد استنفذ كل حيلة وجرّب كل وسيلة:
*سخر من موسى ونسب إليه السحر.
*حذّر منه ومن أنه يريد أن يخرجهم مما هم فيه من ملك ونعيم، وخرجت بطانته على الناس تردد ذلك: “قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ ۖ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)” (الأعراف)
*طلب أن يقتل موسى (ولو كان قادرا لفعل ولكنه الخبث والنفاق)، مدعيا أنه يخشى من تبديل الدين وإظهار الفساد، أي أن فرعون الفاسد المفسد يخشى على قومه وعلى الأرض من فساد ينشره موسى ويظهره.
فذلك نموذج أيضا له نظائره الكثيرة خاصة في هذا الزمن الذي نحن فيه.
“وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)” (غافر).
*استدعى السحرة من المدن ليتحداه، بنصيحة من بطانته الفاسدة (ولا يخلو أي “فرعون” من بطانة حقيرة سافلة تزيده عمى)، وعذبهم لما آمنوا كما سيأتي بيانه في ذكر خبرهم:
” قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)”(الأعراف).
*وفي الختام جمع جيشه لمطادرة موسى وقومه الذين رآهم مجرد شرذمة قليلة، فكان من جنونه ومكر الله به أن جمع جنوده من كل المدن، حتى يقضي الله عليهم معا، ويزيل ملكهم، ويجعل ما تركوه في كنوز وقصور ومقام كريم وراثة غيرهم وآية منه سبحانه.
فتأمل هذا المشهد القرآني الذي هو ترجمة مختزلة لمشهد واقعي، ثم تخيل معي كيف كان قادة جيش فرعون يخططون، وهل وضع أحد منهم في ميزان استشرافه واستراتيجياته وهو يضع أمامه خريطة المعركة حيث سيكون “شراذم بني إسرائيل الضعفاء” محاصرون بالبحر، أن هنالك احتمالا واحدا لنجاتهم وهم عُزّل ضعفاء، ولعل أحدهم قال ضاحكا وهو يمسك بمقبض سيفه ويرتدي درعه وينظر إلى قوة جسده وكثرة الجنود من حوله: “كيف تراهم سوف ينجون يا جلالة الفرعون، هل سينشق لهم البحر”.
ويضحك من في خيمة القادة، ولكن فرعون وهو الأعلم بحقيقة الأمر كان سيخشى من انشقاق البحر لأنه رأى بأم عينه أكثر من مرة كيف انقلبت العصا إلى ثعبان عظيم كاد أن يبتلعه، ولعله تساءل: “لماذا لم يأمر موسى الثعبان بالتهامي وكل من في القصر وتنتهي المسألة”.
وكان تركه حيا رغم تلك القوة المخيفة يملأ كيانه رعبا، والحقيقة أن تركه كان حكمة قوي قدير، ترك هؤلاء أيضا لموعدهم ولو أراد لأخذهم برجة أرض أو إعصار أو مخلوق صغير لا تراه العين كفيروس أو ما شابهه.
ثم انظر بخيالك إلى حال ذلك القائد وهو يرى البحر ينشق نصفين كل نصف كأنه جبل عظيم، ويرى كيف أن تلك الشراذم لم تكن شراذم، بل كانت معها قوة لم يتخيلها، ولم يدرس عنها في المدرسة العسكرية، ولا تعلّم عن وجودها في فنون الحرب، ولا كان يوما يتصور أن عصا الراعي تلك يمكنها أن تكون حقيقة ذات قوى غريبة، فقد كان مقتنعا بما كان يقوله “ربه الفرعون” من أن موسى مجرد ساحر والعصا التي تتحول إلى أفعى مجرد خدعة.
وفيما يعلمه من آلات القتال والحرب، لا وجود لشيء اسمه “سلاح العصا التي تشق البحر”.
والأكيد أن المشهد كان مخيفا وأنه أراد الهروب، ولكن حدث شيء: قوة غامضة جعلت عربته تنطلق والخيل لا تتوقف، قوة غريبة جعلت فرعون يمضي خلف موسى. هل كان فرعون يرجو حقا ان يلحق به، وهل بلغ عناده الى تلك الدرجة وقال: “ماذا فيها: إله يصارع إلها”.
أنا أعتقد أنه حتى وإن ظن بعض جنوده ذلك، ولو للحظات، فالثابت أن فرعون كان في حالة ذهول ورعب وصدمة، وأن جنوده كانوا كذلك، وشعروا حينها بضعفهم أمام تلك القوة التي حولت أمورا محالة إلى أمور ممكنة.
ولكنهم، وذلك الرعب يحطم قلوبهم، لم يكن بإمكانهم التوقف، لأن القدر غلب، والوعد تحقق، والنبوءة تمت، والقضاء نزل، والكتاب المؤجل بلغ أجله، ولأنهم بلغوا “نقطة الفناء” التي لا يمكنهم أن يهربوا منها كما لم يكن بإمكان قوم نوح أو هود، ولا أقوام صالح ولوط وشعيب، أو أية أمة نفذ فيها الوعد، أن تهرب او تنجو أو تؤجل لحظة الفناء تلك ولو لمح بصر، مهما بدت تلك اللحظة قبلها بدقائق أمر مستحيلا بنظر العين المادية والفكر المادي وكل المعارف العسكرية والعلمية والاستراتيجية لدى بني البشر.
وبالإمكان ضمن نظام المحاكاة قياس ذلك المشهد بمشهد قادم يجعل الله قادة الجيوش والأساطيل في حالة قادة جند فرعون حين انشق البحر، وهم اليوم أشد زهوا وغطرسة من قادة فرعون وهم يحاصرون موسى وقومه.
ولكن العجيب أن المحاصِرين اليوم هم المحاصَرون زمن فرعون: بنو إسرائيل ومن حالفهم يمثلون اليوم الصهيونية العالمية التي تطغى أشد من طغيان فرعون وتفعل بأهل فلسطين وبالمسلمين أشد مما فعل فرعون بهم.
والمصير واحد في نبوءة شبيهة بنبوءة حاربها فرعون، بل وقعوا في نفس الوهم: وهم تغيير القدر.
فكل ما فعلته الماسونية وما تفعله، وما تقوم به الصهيونية وحلفاؤها، وما فعله اليهود قبل ذلك (قبل تأسيس التنظيم الماسوني ثم الصهيونية)، وما يفعلونه، محاولات يائسة ومتعنتة لتغيير القدر وإبطال النبوءات ضمن المسار الموعود الذي يبدأ مباشرة بعد نجاتهم من فرعون ضمن فتنة السامري وصولا إلى تحقق الوعد الاول (عبر نبوخذ نصر) ثم الوعد الثاني أو وعد الآخرة بظهور الامام المهدي ثم نزول السيد المسيح.
فرعون الذي سعى لتغيير القدر وإبطال النبوءة وتبديل الوعد، وتحدى الله وطلب من هامان أن يبني له صرحا ليطلع على إله موسى، وحشر فنادى أنا ربكم الأعلى. فرعون الذي استكبر وقتل وطغى وتآمر وكذب ونافق، مع وزيره وجنوده وبطانته وقومه.
فرعون ذو الأوتاد عظيم مصر الذي له ملكها والأنهار تجري من تحته، والذي لم يكن خصمه إلا رجل لا يكاد يبين وقوم هم عبيد له مستضعفون يقتل منهم كما يريد ويغتصب من نسائهم ما يشاء، حين غمره الماء حين شُقّ أمامه البحر ثم وجد نفسه لقوة لا يفهمها يقتحم الماء رغم تلك الآية، وحين رأى الوعد يتحقق والنبوءة تتم والقدر يغلب، وحين رأى وشهد وأحس بسمعه وبصره ما كان غيبا مسطورا وأمرا محذورا سعى بكل غطرسته وبطش جنوده لمنعه، وحين كان البحر ينقض عليه بقوة رهيبة جعلت جنوده الذين لا يُقهرون وقادة جيشه الأشاوس الذين لا يُغلبون مجرد قطع صغيرة طافية على الماء. وحين رأى جيشه العظيم مجرد رميم نطلق لسانه بما كان يخفيه في مجلس سلطانه ومن حوله جنوده وأعوانه وهو يرى أنه الرب الأعلى،وسقطت كله أقنعته،
فصرخ صرخته الأخيرة في مشهد تقشعر له أبدان أهل الإحسان وتذوب فيه قلوب العارفين: ” وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)” (يونس).
أجل: إن فرعون العنيد الذي كذب بالآيات كلها، أغرقه العظيم الجبار نكالا منه كما كان مستغرقا في الاستكبار غارقا في جنون العظمة ووهم الربوبية. ولم يقبل منه كلمة إيمان قالها وهو ينازع الهلاك، كما لن يُقبل من فرعون الزمن الأخير ومن تبعه إيمانهم بعد صدور الأمر وتحقق وعد الآخرة، ثم تأتي الساعة بعده، ويكون قبل الساعة آيات من الله من بينها الدينونة وفناء حضارة الزمن الأخير وهلاك الفاسقين من بني إسرائيل ومن تبعهم، وخراب ملكهم، طباقا لما كان من شأن فرعون والقرى الهالكة:
“هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)” (الأنعام).
ليكون مشهد غرق فرعون وخبره عبرة، ويكون في ذلك قانون رباني مسطور له ما قبل وما بعد تحققا لا تبديل فيه، ذكرته في كتابي “إشراقات”: “من غرق في الوهم والفساد، واستغرق في العناد، أغرقه رب العباد، وأهلكه بما أراد”.
فذلك مختزل خبر فرعون في مسعاه لتغيير القدر وفي عناده، وتلك العبرة التي لا بد من نظر وقياس لها، فليس سرد الله لذلك مجرد حكي لما مضى، فلنتدبر القرآن ونربط المعاني والمباني ونقيس الخبر الذي انقضى بما قدّر الله في قادم وقضى.
ويبقى لنا ختاما أن نتأمل هذه الآيات لننفذ إلى العبرة ولنرى المشاهد القادمة التي تنطوي في المشاهد السابقة، فالكتاب واحد، والرب القدير العظيم هو ذاته، ولا يعجزه هؤلاء كما لم يعجزه أولئك، وهو القادر على محق فرعون الزمن الأخير كما محق فرعون زمن موسى، ولسوف يفعل كما فعل.
“فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60)فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)” (الشعراء).