3 دقائق للقراءة
مزيج من القهر والغضب والالم…مع مشاعر أخرى انتابتني وأنا ادخل مخيم من مخيمات الروهينغا في اطراف مدينة كوكسبازار الحدودية مع ميانمار (بورما).
عبر طريق طويل يمر بجانب البحر ثم بجسر ضيق يلتف عبر حقول الارز ومساكن المزارعين وبسوق يكتظ به الناس مضينا الى غابة كثيفة تراصّت فيها مساكن الروهينغا الهاربين من الموت والتقتيل والابادة، فبدت مساكنهم القصديرية المتلاحمة كقبور سوداء تنتظر عاصفة وسيل ماء لتهوي فوق رؤوس ساكنيها، وموسم الامطار قريب.
مليون روهينغي يتوزعون على ٣٠٠ مخيم اوتهم بنغلاديش رغم ظروفها الاقتصادية، في شهامة عالية للشيخة حسينة رئيسة الوزراء و ابنة المناضل الشهيد مجيب الرحمان الذي يسميه البنغال “ابو الأمة”، وبجهد كبير للجيش البنغالي، ولصديقي السيد سيف الدين أحمد الذي مكّن لي من الزيارة مع الوفد العلمي من اليمن (الشيخ زيد بن يحيى) ومن أندونيسيا (الدكتور علي عبد الله)، ومن ماليزيا (الشيخ علي الخديد)، ومن الولايات المتحدة وأصول من غانا الداعية الشيخ أحمد التجاني بن عمر.
قال لي قبل أن نمضي: إن التصوف ليس زاوية وخلوة فقط، إنه عمل مع الناس، وفعل للخير”، هذا الرجل الذي أقبل أحد أجداده من بغداد من مئات السنين، وهو أحد أحفاد الغوث عبد القادر الجيلاني، وكان قاضي قضاة، ثم استقر أحد أحفاده منذ 230 عاما في مكان سُمّي بعد ذلك “مجبندر مدينة الصالحين”، والتي أكتب إليكم الآن منها والساعة هنا الثالثة والنصف صباحا، والذي يقف خلفه 25 مليون مريد، كان له دور كبير في إغاثة الروهينغا، ولكن كل ذلك الجهد لا يكفي وحده، إذ أن ألفا أو أكثر يعبرون كل يوم الحدود إلى بنغلاديش، والجرح غلب راتقه.
عندما وصلنا انتابني حزن قاتل، اكتسحني عند أول نظرة في عين طفل رأى الموت وذاق مرار الخوف والجوع، وفي أعين العجائز والشيوخ، ومعلم قرآن وحديث اسمه عبد الرحمان عبد القادر الذي قتلوا ابنته أمام ناظريه، وآلاف الأطفال الذين تسكن أعينهم حرقة وأحزان كأنها الدهور.
وجدنا هنالك جمعية خيرية من جنوب أفريقيا (الإمداد)، وكان الجيش حاضرا بكثافة، وقد وزعنا طعاما وأغطية خصصت لثلاثة آلاف منهم، ورأيت وجها مشرقا طالما آمنت به وكتبت عنه في كتبي ومقالاتي عن التصوف، خاصة كتابي “التصوف من خلوة إصلاح النفس إلى جلوة إصلاح الناس”، ولكني رأيت أيضا مدى الظلم الذي يعاني منه المسلمون في ميانمار، وطاف قلبي النازف في أرجاء العالم ينظر إلى أطفال تقتلهم الكوليرا في اليمن، وآخرون يقتلهم الارهاب في العراق والشام، وسواهم يموتون في المجاعات بأفريقيا، ثم ذكرت كم لدى ملوك العرب وحكامهم من مال، وكم مال دُفع لأعداء الإنسانية: لرئيس متعجرف من سفلة الكوبوي، أو لشراء الأسلحة وتمويل التكفير والإرهاب، وهتفت روحي ملئ الوجع: اللهم ليس لنا سواك…ثم وقفت في جمع من الشباب والأطفال مرددا وهم يرددون معي: اللهم صل على سيدنا محمد…اللهم أغثنا…اللهم فرج همنا وغمنا وكربنا..يا رسول الله أغثنا”…فلم يكن في يدي مال…ولا عندي جيش…ولا حول ولا قوة لي إلا أن أدعو..فدعوت…عسى يستجاب لي بهم، ويستجاب لهم بدعوة مسافر أتى سعيا إليهم من أقاصي الأرض…
وكم جرفني الألم والحنين حين قدمت لطفل روهنغي غطاء وهو يبتسم بعينين عصرهما الحزن…ثم وضعت يدي على رأسه…وفي خاطري يتردد قول الشابي:
والشقي الشقي من كان مثلي…في حساسيتي ورقة نفسي..
إن الذي يصمت والذي يقدر ثم لا يساعد أولئك المظلومين…ليس له قلب….ومن لا قلب له فلا خير في حياته…لقد شربت كأسا من الحنظل مختلفا في مخيم الروهينغا…ورغم افتخاري بجهد صديقي السيد سيف الدين…وبما رأيت من أهل خير مؤمنين…فإن غضبا لا يوصف أحاط بقلبي…أين العرب من كل هذا؟ أين أثرياؤهم الذين يبعثرون المليارات هنا وهناك…أين نخوة العربي…أين عنترة والمهلهل….أين المسلمون….حينها هتفت القدس وجاوبها حزن فلسطين…وكان اليمن ينظر بأسف…والشام يكفكف دمعه..والعراق يمسك جرحه الذي لم يكف من النزيف…ومن ليبيا إلى الصومال كانت أرواح الصالحين تنفض عنها غبار الألم…فارتجلت ونحن نشد الرحال إلى مجبندر ونترك خلفنا الآلاف في مساكنهم التي تترنح من الريح وتنظر بخوف المطر وتعانق أشجار الغابة الكثيفة:
ما بال قلبك لا أراهْ….هل ضاع أم تاهت خُطاهْ
ما أنت من دون الفؤاد…سوى عدوّ للحياهْ
فارحمْ لتُرحمَ يا أخي…فبذاك أوصانا الإلهْ
الآن أنهي كلماتي وصوت آذان الفجر يتردد…لعل خلف هذه الغمة فجرا قريبا…ولعل نصرا من الله يأتي…من حيث لا يعلمون.
مجبندر، مدينة الصالحين، ولاية شوتاغونغ، بنغلاديش.
07/12/2017، الرابعة صباح