مقدمة مجموعتي القصصية “حكايات أبي العناء”

4 دقائق للقراءة

كلمة أولى

   هذه حكايات مجنونة جدا...أو ربما تجد فيها بعض الحكمة..أبطالها مجانين وحكماء وكائنات من أكثر من عالم...ستجد صديقنا التنين يقص حكاية على حجارة ضاحكة..أو صاحبي الأفضل الذي يعاني كثيرا يتحاور مع المارد...سوف تبصر كائنات لا يمكن لها أن تطير وأخرى تطير فتهوي أو تهوي لتطير..ستنظر إلى العالم من أعين لم تتخيل أنها ترى أصلا..هل تخيلت العالم من عيني دودة في قبر مظلم..أو حمار في واد أخضر..أو مجنون..أو ربما مخلوق من عالم سرمدي يرى عالمنا نقطة صغيرة..وكيف بالعين التي تراه نقطة..وكيف به حين يرى أصحاب تلك الأعين بعين قلبه نقاطا لا تكاد تُرى...

سوف تلتقي عروس الماء وتغيب مع غائبها وتستمع للزمن الموجيّ ولغيظ الحوت ومكره.. وتتعلم القوة من صرصار كي لا يخدعك الظاهر..أو ربما تقاتل في حرب كرتونية شرسة ثم تحملك سفن نحو الفضاء..وترافق الأرنب والخنفس والنسر ، وتنظر لنسر تعلم أول درس له حين طار، وآخر تنكر في ريش دجاجة حتى فقد القدرة على التحليق، وسوف تبصر غابة فيها معلم فريد للطيران وتفهم قوانين غابة العشق وترى قصة النمر والغزال وتسمع نبأ الهدد، وتتعلم من حكمة النحلة…ثم ستتشظى وتتماهى..وتحتار وأنت تبحث عن المعنى الهارب واللغز المستقر…
جنون أم حكمة!!!….أو ربما طفل يبني من الصلصال عوالما لا يراها سواه..لكنها قصص كتبتها في لحظات من الألم أو السخرية..لك أن تتبين من يختفي خلف كل كلمة..هل مجنون فعلا أم صاحب عظة حكيم..
لملهمتي حضن الغيمة..ولي سراب الذكريات…ولطفل كُنته أحلى حكايات قلبي…
كنا في الريف لا نمتلك سوى الحلم..كنت طفلا وكانت أمي تقص علي حكاية “علي بن السلطان وحَبْحَبْ رُمَّانْ” ..ربما لان خدها كان كحب الرمان..من يهتم..ولازلت أحفظ تلك الجمل السحرية: “علي بن السلطان خلّى حبحب رمان تحت جنان المثنانْ” أو “وِلْد الخَرّافْ كبَّارْ ..وبرّا يا زمان وإيجا يا زمان ” ثم الكلمة التي تنتهي بها كل حكاية “خُرّافتنا هابة هابة والسْنِيَة تجينا صابة “.. وكل ليلة كنت أراني من كوخنا الصغير الذي يتراقص فيه لسان مصباح أو قنديل زيت..كنت أراني ابن السلطان أحمل سيفا “يحمله أربعون وينزله أربعون “..ولكي أظهر بطولتي أكثر لأخي وأختي الصغيرين..وحتى لا تفكر سنبلة قمح أو طائر “قُوبع ” في تحدي قوتي..كنت أصنع أعداء من الصلصال وأقضي عليهم بشراسة..ثم أركب “فرس العصا ” وأعدو في المرج كلحظة فرح…أو أخط على الأرض الطرية أثرا مذهلا بالميتور الذي أفتكه بشراسة وسعادة من عمود الصبار الذي كنا نقطع أياديه كلما نما ورفع رأسه لنتخذها دراجات نارية على غاية السرعة والخطورة …
كان قوس قزح صديقي..ويسميه أهل ريفنا “قوس قْدَحْ”…ربما ليكون النطق أيسر…وكنت كأقراني أتخذ أصداف الحلزون أغناما ونسمي ذكرها كبشا ونصنع من العيدان والطين ألعابا عجيبة جدا يحركها الخيال وتصوغها الحكاية… ثم انتقلت إلى حكايات أخرى..”دادا عائشة”…وكنوز الحكايات التي قصها الفلاحون على أطفالهم لقرون خلت ونسجتها عقول نقية وقلوب طيبة جدا..كم كنت أعشق تلك الحكايات..وحين تغيب كانت ابنتها سالمة ابنة عمي أحمد (أخو جدي علي رحمهما الله) تتولى السرد الشيق لأروع الحكايات..وحين اشترى عمي البشير أول جهاز تلفزة في تاريخ العائلة..دخل “رامرود” و”فلترون” و”بيل وسباستيان” على الخط…وفي دكان أبي كنت أجلس مع جدي نشاهد الكلب البطل ينقذ صاحبه وتنهمر دموع كثيرة…
صوت “عبد العزيز العروي ” المميز العميق السحري وصورته بالأبيض والأسود يقرع أبواب الحكايات..و”الجريّدَة والعصفور ” وقصص كنا ننتظرها انتقلت من المذياع إلى التلفزة ثم من المحكي إلى التمثيل الذي أبدع فيه نخبة من ممثلي بلادي..ربوع تونس الحبيبة..كنت مأخوذا بذلك العالم السحري الذي يطل من خلف البلور…
في ركن آخر من النشوة المطلقة كان اللحن المميز يأتي رخيما خلابا وأغنية تقول: “افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال..افتح واستقبل أصحابك نحن الأطفال…و”نعمان” و”بدر” وحكايات ساحرة.كان أخي ماجد يعشق “بدر” وقصصه…ولكم غنيت مع إخوتي حين صرت طفلا تخرج لتوه من كلية الآداب والعلوم الإنسانية..كنا نغني “احذر ميغالو يا سوسان” و”مرة في حينا زارنا فيل ظريف بلطف قال لنا ليس هنالك ما يخيف” وحملتني عوالم ديزني وروائع الكرتون أبعد من آلامي ورسمت على شفاهي القاحلة غيمات من الابتسام ولازلت أعشق أعمال عباقرة الكرتون، ولذلك استضفت “ديزني” في إحدى حكاياتي الكرتونية..رغم علمي أن ديزني و”dream works” بأروع ما قدمت من أفلام كرتونية تدين كلها لصديقي عبد الله ابن المقفع الذي مكنها من تعلم لغات الحيوان في حين لم نعد نفهم حتى لغة البشر…أتألم حين أرى أن نبيا عظيما كان من معجزاته فهم منطق الطير وسماع النملة ..وحين أرى رب الأكوان يضرب مثلا بالذبابة والبعوضة ويجعل للنمل والنحل والبقرة والعنكبوت سورا..ويحكي عن كلام النملة والهدهد..لكننا لم نفهم الحكمة ولم نصل للدرس.
حين أحببت للمرة الأولى غنمت قصة وخسرت حبيبة..وتتالت الغنائم والخسائر..تمضي الحبيبات وتبقى القصص والقصائد والحروق وجراح لا تندمل..
في “شعاب معان” حين مكثت كجناح تعرض لطلقة عاصفة..كنت قصة مؤثرة جدا..وبعد سنين الغربة والترحال كثرت قصصي وكثر صمتي…
الآن في دمشق…وقد صرت السيد الدكتور …وفي عقلي بحوث من العلم معقدة ومسائل للمنطق ومحاضرات للفلسفة يلقيها عقلي على عقلي وتصورات وقواعد ونظم بين الروح والنفس ومتاهات من الفكر والنقد والتأمل وعوالم كثيرة..في لحظة من الليل الهادئ المطير..أتناول وجبة دسمة من الألم يحليها أمل عذب…وأبتسم لأبطال حكاياتي..ولأن قصصي لم ولن تنتهي..فإني حين أقدم لمازن القاص…أشعر ببعض الغبطة..لأن القصص التي أكتبها ترسم على شفة قلبي ابتسامة وعلى وجه دمعتي بعض الرجاء رغم نفاذ الوجع واستحكام الفجيعة…الشاعر في دواخلي لا يكتب إلا في حال نحيب..وبقية الكائنات كل له طقسه وطريقته..أما عاشق الحكايات فطفل لم يمت…إنه ذاك الذي يركب الريح ويعدو في الحقول…طفل لازال يسكنني ويضحك من جهلي بسر توهجي المستمر رغم عتمة الوحدة وبرد العزلة ولهيب الذكريات…فإلى كل من علمني حرفا..إلى أمي وأبي وأجدادي وإخوتي وأهلي وأصدقائي وأحبتي.. إلى أهل الريف الطيبين… إلى أجمل المدن وأهلها الودودين…إلى أطفالي الذين لم يأتوا بعد..إلى زوجتي التي قد أجدها يوما…إلى الريف..وكوخنا القديم…إلى كل فاتنة أحببتها ومحبوبة عشقتها..إلى قصص خيبتي المزمنة…إلى الطفل الذي يستحوذ علي أحيانا…ويستوطن فيّ دائما….إلى عشاق الحكايات..أهدي هذا الجنون الحكيم… وأقدم هذه الحكمة المجنونة..

المزة – دمشق\18‏/12‏/2009‏ 01:10:54 ص

مقالات ذات صلة

طفل وصورة
كان طفلا في مدرسة لها قسمان، سورها من شجر عال متكاثف له شوك أبيض طويل. يلبس صندلا من البلاستك ذي النتوءات التي كثيرا ما...
4 دقائق للقراءة
صوت لا يخبو ونبض لا يموت
وتبقى الكلمة…موقفا وروحا ونبضا لا يموت.كثيرا ما يُظلم الشعراء، وكثيرا ما تجد القصائد الجميلة نفسها سجينة في زمن يطغى فيه الابتذال وتسيطر عليه الرداءة.وكثيرا...
< 1 دقيقة للقراءة
لقاء مع العملاق
لقاء جديد مع العملاق، صديقي الفنان الكبير لطفي بوشناق، مناضل بالفن، مناصر للقضية، موغل في حب الوطن، وفي العروبة، وفي حب فلسطين.فنان من زمن...
< 1 دقيقة للقراءة
زيتونة
اجلس تحت شجرة زيتون اتنسم نسائمها البارده واتنعم بظلها الوارف واستمع لحفيف الريح على اغصانها يعلو كانه العاصفه ثم يخفت حتى لا يكاد يسمع...
< 1 دقيقة للقراءة
رسالة إلى الذين يعرفون أنفسهم
واجهت في حياتي أعداء كثرا.واجهتهم يافعا موهوبا، فكرهوه حسدا.وشابا قويا طموحا، فازدادوا كمدا.وأواجههم اليوم وقد بلغتُ أشدِّي، فلم يفز منهم أحد علي أبدا.صحيح أن...
2 دقائق للقراءة
في فلسفة الوجع
حياتنا قصة مكتوبة في لوح القدر، ونحن نقرؤها بتنفيذ ما فيها، ونتكشف كل يوم ورقة من ورقاتها، فصلا من فصولها، حدثا من احداثها…ونبقى في...
2 دقائق للقراءة
تحية لتلاميذي
تلاميذي هم أبنائي، نمور علمتهم ودربتهم ومنحتهم ثمار عذابات عمري وخلاصة شقاء سنوات التدريب القاسي والبلاء المر.وفي مدرستي يكون التعليم في الحال والمقال، في...
< 1 دقيقة للقراءة
في معنى كلمة مولى
ذكر أحد الأحبة عن كلمة “مولى”، أن المولى هو الله عز وجل، وليس الإنسان مولى لأحد.وهذا فهم ضمن معنى الربوبية الإلهية حصرا، لكن للألفاظ...
2 دقائق للقراءة
استقلال وشعر
الشعر استقلال للغة، وتحرر للمعاني، وتحرير للصور من استعمار النمط وسيطرة القوالب.وعبث جميل بحجارة الأفكار، وطيران باجنحة الخيال في آفاق الممكن والمستحيل.وبين العشرين واليوم...
< 1 دقيقة للقراءة
يابا العمدة
منذ الصبا كنت اتابع واحب المسلسلات المصرية، وكنت مغرما باللهجة الصعيدية، وبمشاهد بقيت راسخة في ذهني.ومن الشخصيات التي كنت احبها شخصية “العمدة”، ومشهد الغفير...
< 1 دقيقة للقراءة