5 دقائق للقراءة
الوهم ظنا منه أنه حقيقة يأخذ الحقيقة على أنها وهم، وهذا الوهم الذي غدا حقيقة يزيّن كل أشكال التوهّم ويغيب كل الحقائق، والإرهاب وهْم متقن حتى أصبح حقيقة مطلقة.
العقل نظام ومنظومة من الأفكار والادراكات التي تتفاعل وتتأثر بالمشاعر والحواس ومختلف المؤثرات الذهنية والعصبية والنفسية والروحية والمحفزات الخارجية.
والوهم خلاب ذكي يتقن استثمار كل ذلك. وقد أفرد له خبراء فن الننجا بابا كاملا ضمن فن الوهم، وله في مجالات الإيحاء والتنويم مكان ومكانة. وهو علم مفرد (علم الوهم) تقوم ضمنه مجالات من السياسة والاعلام. فالسياسي الماكر يقدر على إيهام شعبه وعلى تحويل تلك الأوهام إلى حقائق يرونها ويرفضون سواها مما يجعل سلطة الايديولوجيا بوهمها أقوى من سلطة الحقيقة بجلاءها وأحقيتها. وليست النازية سوى قوة إيهام أشعلت العالم وكادت تبيد الإنسانية. وقد درس خبراء التنويم المغناطيسي خطب هتلر وموسوليني وقوته الايهامية والايحائية. كما تصنع السينما الهوليودية أوهاما تتبناها شعوب الأرض وفق ما يخطط له من يدير الخطة في ركن من زوايا الظل.
ذات الأمر يستخدمه العقل الإرهابي، فهو يرسم الأوهام حقائق ويستدرج العقول لتسقط فيها حتى تراها الحق الكامل الذي يجوز قتل من لم يصدّق به.
إن الأثر الإيحائي على العقل البشري وفق ما بينه علماء وخبراء التنويم والبرمجة العصبية – وأنا منهم – أثر كبير وخطير. فليس العقل سوى برمجيات شبيهة بالحواسيب ونماذج متقاربة في نقاط ونظم تفاعلية وحسية وبصرية وسمعية (كما بين مؤسسا على البرمجة اللغوية العصبية NLP ريتشارد باندلر وجون غريندر عام 1973)، وأنا على يقين بصفتي مكوّنا في هذا العلم وخبيرا به أن العقل الإرهابي المدبر خبير عليم به وأنه مستخدم بشكل مطوّر حتى يسهل غسل الأدمغة وحتى ييسر زرع الأوهام واجتثاث الحقائق.
زوجة جميلة وطفلان وعمل جيد ومنزل أثير اجتهد ليبنيه: حقائق.
تفجير مقام في العراق التي لم يزرها يوما ولا يعرف المقام ومن أقامه ومن أقيم من أجله ومن دعاه لتفجيره ومن صنع المتفجّرات ومن رتب الرحلة وموّلها ولماذا: أوهام.
لكن ببعض البرمجة في مسجد ما سيطر عليه عقل تكفيري أو مكان سري للقاء تجد أن ذلك الرجل ترك منزله الأثير وزوجته الجميلة وطفلاه المحببان وعمله الجيد وفجّر نفسه في مقام بالعراق لم يكن يسمع عنه أصلا وقام بالرحلة مع من لا يعرفهم ومات إلى مصير لا يعرفه ولئن كان مقتنعا واثقا مؤمنا حينها أنه يقوم بالحق ويترك الوهم وأنه ماض إلى الجنة حتما.
ربما يعتقد البعض أني أروي قصة خيالية لكن هذا الأمر جد حقا والنموذج الذي اعنيه هو نموذج شاب من حي النصر ( أحد أكثر الأحياء رقيا في العاصمة التونسية) وفجر نفسه في مقام بالعراق أمام دهشة أهله وكل من يعرفه دمث الأخلاق خجولا مترفا بعض الشيء لا يقوى على قتل نملة. والأمر حدث مع نماذج كثيرة في تونس وفي العالم العربي والمجتمع الدولي. وقد تحتار الدول الغربية كيف أحد رعاياها يترك كل الترف الحضاري لينضم لتنظيم إرهابي ويقاتل دولته وينسف جسده رغم ثقافة حب الحياة عندهم وعشقها، وجزء من الجواب كامن في التمشي الوهمي.
إن الخدعة الحربية وفن المناورة كما رسمها سن تزو تقوم بالأساس على الإيهام، وحتى أنواع من السحر تقوم عليه كما ذكر القرآن من أمر تخييل الحبال أفاعي للنبي موسى، لذلك يسمي بعض لاعبي الخفة والسحرة أنفسهم بفنانين في مجال الوهم من امثال كوبرفيلد وكريس أنجل. والعقل الإرهابي شبيه بهؤلاء ولكنه لا يحوّل الحبل إلى أفعى عبر التوهم أو يحطّم الأذهان بحركات غريبة بل يعمل داخل العقل بشكل أهدأ حتى يحوّل كل العالم من حوله إلى أوهام ويزرع حقيقة واحدة: عليك أن تقتل الجميع حتى نفسك لترضي الله وتقيم دولته وتكون على خطى النبي.
إذا قيل له: تترك أمّك حزينة وأباك باكيا. قالوا له: ستشفع في سبعين من أهلك. متجاهلين أن أعظم الجهاد في طاعة الوالدين وأن النبي رد مجاهدا معه لأجل أبويه وقال له: فيهما فجاهد.
وإن قيل: ترمّل زوجتك التي تحبها وتحبك. قالوا له: خذها معك لتنال شرف الجهاد (بعضهم يهب زوجته لجهاد النكاح راضيا في غبطة ). أو: حوريتك في الجنة تنتظر فلا تطل الانتظار فهي خير لك من انسية أرضية فانية. أو: من الأزواج والأولاد عدوّ وفتنة، مستعينين بإسقاط لآية قرآنية في ذات المعنى ولكن بمقاصد أخرى وفي سياق مختلف. متناسين أن الزواج ميثاق وأن للزوجة عليه حق وأن الجنة بيد الله والحور من عطاء الله الذي لا يملك البشر وعدا به وقدرة على منحه. وان الله يقبل الخيرين ولا يحب المعتدين.
وإن قيل: كيف تترك وطنك لبلاد لا تعرفها وأمر لا تعلمه. قالوا له: أترضى أن تنتهك حرمات المسلمين وأن ماكث في بيتك، إنها هجرة كهجرة النبي وأصحابه وجهاد كجهادهم. مغفلين أن النبي هاجر مضطرا ولم يمض للتخريب والقتل والتدمير ولم يحارب راغبا قط.
فكل كلام قد يقوله الإنسان الناصح المشفق لمن سيطر عليه الوهم الوهابي بداية ثم الارهابي فيما بعد يجد خطا ناريا يحمي الفيروس من التدمير وأجوبة نمطية مسقطة لكل شيء. ولذلك يجد من المحال إقناع الذي تخدر عقله بالمعتقد الوهابي أن الله ليس جالسا في السماء وكيف يجلس فيها وقد خلقها فيجيب بحديث الجارية وبأنه إن لم يكن في السماء فهو غير موجود. وإن قيل أن من يزور وليا لم يشرك بل قصد سر الله في مخلوقه وليس تأليه المخلوق يجد عنادا وجحودا وحججا مسقطة على أن ذلك شبيه بالكفار حين عبدوا الأصنام ليتقربوا من الله زلفى ويتم استخدام الآيات في غير مواضعها ولا سياقاتها حتى تجعل لذلك الوهم ثبوتية وقداسة وهو ما بينته في شروح نظريتي “التنظير، التكفير، التفجير”.
التمشي الوهمي خطير جدا، والأوهام قوية للغاية حين تسيطر على الذات البشرية، على المخيال والتصور والنفس والعاطفة والعقل. والأخطر ضمن التمشي الوهمي أن المسار الذي يتخذه للسيطرة في سنوات أو حتى أشهر وفق نوعية البرمجة، يحتاج لصدمة قوية للخروج منه ويصعب كثيرا اختراقه من الخارج ولابد من زلزال داخلي للخروج من شراكه. والإشكال أن من خرج منه ووجد نفسه في بؤر الموت تتم تصفيته، ومن فرّ منهم وجد نفسه في دمار باطني كامل وضعضعة نفسية عميقة، وهي نسب قليلة أمام النسب الأكثر التي من المحال عليها أن تخرج مهما كانت المحفزات والصدمات، وعليه حين تتم محاصرة مجموعة إرهابية ثم يعمل المفاوض على كل أنواع التهديد والترغيب والوعد والوعيد والجانب العاطفي كأن يأتيه بأمّه أو أبيه أو أطفاله فإن الإرهابي لا يتأثر لأن سيطرة الوهم عليه سيطرة مطلقة تلغي آليا كل شعور إنساني حتى أنه يمكن أن يتخذ طفله له درعا وربما قتله وهو يرى نفسه يجاهد في سبيل ربّه. وهنالك صور صادمة عن ذلك ومشاهد مفزعة لمن حمل رضيعة إلى جبهة القتال في سوريا ويرجو أن تُقتل معه ليُكتب أنه جاهد بنفسه وبابنته وينال أعلى مراتب الجنة، وهي جنة الوهم التي تشبه جنة الدجال إذ هي في حقيقتها نار. والرب الذي يسترضيه رب وهمي جالس على كرسي في السماء له يدان ورجل واحدة ينزل إلى العالم الأرضي بذاته ويصعد بذاته كنزول رجل في بئر وخروجه منه وغير ذلك من التوهمات، وحين يكون الوهم بهذه القوة، فمن الصعب جدا اختراقه، ولابد من منهج علمي لحماية الشباب من تسلّطه القهري عليهم، والذي قد يتخذ طرقا خبيثة مثل “الرقية الشرعية” الباطلة التي لا تمِت بصلة لحقيقة الرقية كما علمها النبي لأصحابه. فالرقية الوهابية التي يسمونها شرعية مدخل للصرع والهذيان وتسلط الوهم المطلق. وغيرها من الأحابيل والطرق التي تزرع الأوهام وتخلّف الهمّ والظلام.