4 دقائق للقراءة
الثقافة جامعة، روحها التعايش والتواصل والتفاعل، وهي مقوّم حضاري إنساني، لكن العقل الإرهابي يسعى تدريجيا لتدمير روح الثقافة وزرع ثقافة مزيفة بديلة. ثقافة تقوم على الموت والكراهية، على رفض الحضارة وادعاء بناء حضاري مستجد على أشلاء كل تحضّر.
كيف يمكن تحويل “مثقّف” إلى “إرهابي”؟ هنا مكمن الحيرة التي تنظر بدهشة من خارج الإطار، من نماذجها فنان اشتهر بأغاني الرقّة والحب يتحوّل إلى قيادي في تنظيم إرهابي بلبنان، والنماذج كثيرة لطلبة ودكاترة وسواهم انظمّوا للتنظيمات الإرهابية. المشكل بالأساس غياب قدوة ثقافية فعلية، والحرب التي خاضتها العولمة ضد كل ثابت ثقافي وكل خاصية ثقافية لشعب من الشعوب حتى تحوّلها جميعا إلى نموذج واحد مما يعني انتباتا واجتثاثا ثقافيا لشعوب الأرض خاصة الشعوب العربية والمسلمة. هنا تكون خطوة “العقل المدبّر” الذي لا ينفصل عن العقل المفسد وما نشره من خواء ثقافي وبدائل سمحت للشذوذ وكل أشكال الانحراف بأن تكوّن خلايا وتنتشر في شتى أصقاع الأرض وتخرج من الخفاء والشعور بالعار إلى العلن والافتخار وتكوين منظمات خاصة وتقنين الزواج المثلي مثلا في دول كثيرة مما يتعارض مع أساس الثقافة الإنسانية السليمة. العقل المدبّر يرسم للعقل المغرر به طريقا للثورة على الخواء والتصحّر والفساد القيمي والأخلاقي والنضوب الثقافي، مستغلا ما تعيشه الشعوب العربية خاصة من ضمور ثقافي جعل الموروث مجرد فلكلور بلا روح فاعلة والحاضر قزما أمام عمالقة التاريخ. من أسس هذا الطريق الإيهام بإحياء ثقافة النقاء الأولى (فترة النبي وصحابته) وتقوم مؤسسات داعمة بافتعال مؤيّدات لتقريب الصورة وتثبيت النمط مثل بعض المسلسلات التي حملت برمجية ثقافية ماكرة في أوقات مختارة بعناية فمسلسل “عمر” كان هدفه دعم جبهة النصرة وتنظيم الدولة ثقافيا وفنيا من خلال تقريب النموذج المحتذى به وهميا والجراءة على تصوير الصحابة جميعا بشكل موجّه ثم إسقاط تلك الصور على قياديين في تلك التنظيمات شاكلوا الممثلين الذي تقمصوا أدوار الصحابة ليتم إسقاط آخر يجعل العدو (وهم جميع الناس) كفّارا. ومن الصور المؤثرة صورة قتل خالد بن الوليد لمسيلمة الكذاب وما فيها من دموية زرعت فكرة القتل بمكر، وكذلك القعقاع وقتله لفيل كسرى بنفس الدموية والتشفي تحت أصوات التكبير والابتهاج لنرى بعد ذلك مشاهد الاعدامات وقطع الرؤوس وسط التكبير والابتهاج والرقص. كل هذا يدخل في إطار البرمجة والإيحاء وله مجالات كثيرة، ومن بينها المجال الثقافي.
عندما يتم غسل “العقل المدمَّر” وزرع ثقافة الموت والكراهية في داخله فهو لا يراها كذلك، بل يرى أنّه استعاد الزمن الأول وسار بمنطق النبي وصحابته وبقوة القداسة الإلهية لتطهير الأرض من الفساد والانحراف، وكل ما يفعله مبرر لأن المنبع مقدس والغاية مقدّسة، وبين القداستين يجوز اقتراف كل دنس. ويتم توظيف الفن بشكل مهجّن مثل الأناشيد دون موسيقى لأن الموسيقى حرام، وهذه الاناشيد فيها كلمات برمجية من قبيل التغني بالموت والشهادة والحورية الجميلة التي تنظر ويدعو أن يجتمع معها على سرير في الجنة وهي أنشودة انتشرت كثيرا، وتعمل المواقع الخاصة بالتنظيمات على نشر تلك الأناشيد وفيها أيضا الغيرة على الصحابة وعلى المستضعفين واستثمار ما أصاب المسلمين في بورما وفلسطين وسراييفو من ظلم وقتل وتنكيل، والتغني بفتوحات الصحابة ومن بعدهم من فاتحين وبأمجاد الأمة الغابرة. ويقبل الشاب على الاستماع إليه مرار وتكرارا دون موسيقى لأن الموسيقى قد تخفف من الأثر الإيحائي للكلمات حتى إذا ما امتزجت مشاعره وأفكاره بما تمّ دسّه في تلك الأناشيد ولو كان المحتوى صحيحا من أمر الغيرة على الصحابة أو التغني بالأمجاد أو البكاء لضيم المسلمين، فالسم المدسوس في الدسم يحوي ثقافة الكراهية والموت من حيث لا يعلم المغرر به: الغيرة على الصحابة غايتها الحقيقية التحفيز لقتال الشيعة وكل من خالف المذهب السني بنسخته الوهابية. والتغني بالأمجاد والفاتحين غايته التحفيز للانضمام لمشروع الخلافة الذي سيقيم دولة الإسلام ويعيد تلك الأمجاد والفتوحات وقد سميت انتصارات داعش في العراق فتوحات وحرب الشام من الملاحم. اما البكاء على مآسي المسلمين فدعوة خفية ماكرة للانتقام من الذي فعل ذلك بهم والحقد عليه عبر تكثيف المشاهد الدموية المصاحبة للأناشيد ولكن في الحقيقة لا ينتقم المنتمون لتلك التنظيمات ممن نكّل بالمسلمين ولا يمضي أحد منهم لمساعدة أهل غزّة وقتال الصهاينة بل يقاتلون من قاتل الصهاينة أو كان درعا في وجوههم، ويقتلون الأبرياء والمستضعفين مثل الأيزيديين بالعراق في مجازر جماعية ثم ينتهي الامر ببيع حرائرهم واستباحة أموالهم وأعراضهم.
التمشي الثقافي يعتمد التكثيف والتوظيف، والحال العالمي يجعل ذلك ممكنا بسبب التجفيف والتزييف: تجفيف لمنابع الثقافة الحقيقية وتزييف لمحتواها حتى لا تشبه أحدا وتكون كائنا هجينا مصطنعا.
تكثيف مستمرّ عبر كل الأماكن الحيوية في الذات من مشاعر وضمير ونفس وإدراك حتى يشعر المستهدف بالضيق والاختناق والمهانة والرغبة في فعل أي شيء حتى لو فجّر جسده.
وتكثيف قوي عبر كل مقدرات الثقافة والفن وقوة الاعلام ومواقع التواصل وما توفره الشبكة ولذلك ترى انتشار المواقع الارهابية وقوتها في التصميم والاخراج وكثرة مشاهد القتل والتنكيل والأناشيد مع ما يكون من دعم قوى تخدم وستخدم الارهاب بما لديها من إمكانيات رهيبة.
توظيف كل ذلك بخبث والحفر في الذهنية والسعي لإيجاد نموذج ثقافي لا يمكن لمسلم أن يرفضه وهو النموذج النبوي ثم رسمه مجددا بشكل إيحائي توظيفي لخدمة الغاية النهائية فيكون الاقتداء توهّميّا والناتج كارثيا في الحقيقة.